البابور الموقع العربي

مصر للبيع.. و “أرجل الفراخ” للمصريين

267

يدخلون عامهم الجديد بـ”أرجل الفراخ”.. ماذا حدث للمصريين؟

لم يكن للإعلام المصري الرسمي على مواقع التواصل الاجتماعي، شغل تقريباً إلا الترويج لفوائد تناول أرجل الدجاج، حيث تبارت المنصات، التي يضع موقع “تويتر” تحت أسمائها ختماً رقمياً يقول فيه إنها جميعاً مؤسسات حكومية بشكل ما، في التسويق لتلك الوجبة، إلى أن تضاعف سعرها في بورصات الدواجن 100% تقريباً، الأمر الذي أثار جدلاً اجتماعياً واسعاً في مصر.

كيف بدأت القصة؟ 

للتدقيق والأمانة المهنية، فقد بدأ الخيط من عند الصفحة الرسمية للمعهد القومي التغذية على منصة “فيسبوك”، وهو معهد صحي حكومي معروف يضطلع بدور خدمي للمواطنين وأدوار أخرى خاصة بترخيص المنتجات الغذائية في السوق المحلية، ويقبع في محيط منطقة القصر العيني، في الطريق بين القاهرة والجيزة، حيث تضم تلك المنطقة التاريخية عدداً من المؤسسات الصحية الكبيرة في البلاد.

بين الحين والآخر وقبل الأزمة الاقتصادية الأخيرة، يقوم المعهد، على صفحته في “فيسبوك” بنشر مواد مشابهة، معظمها وجبات يرى القائمون على الصفحة أنها تجمع بين السعر الرخيص والقيمة الغذائية، ولكنّ المشكلة في “أرجل الدجاج” أنها، بعيداً عن الحديث التقني الخاص بالقيمة الغذائية، وجبة لا تلائم الذوق المصري. ففي كل مجتمع، أصناف قد لا تلقى قبولاً لأسباب ثقافية، بعيداً عن محاولات العقلنة والبحث عن المزايا. في الولايات المتحدة مثلاً، لا تلقى “أجزاء الدجاج” (الأوراك) قبولاً واسعاً، رغم فوائدها وانتشارها في مجتمعات أخرى، ما يجعلها أنسب للتصدير للخارج.

وفي مصر، يعد الحديث عن تلك الوجبة دالاً على تغيرات اجتماعية هائلة؛ لأنه من المعروف أنها تقدم عادة للحيوانات الأليفة، من قطط وكلاب، فيذهب صاحب الحيوان إلى محل الدجاج، فيطلب منه كمية من تلك الوجبة التي تعد من فواقد العمل، فيبيعه إياها بسعر رخيص، بضعة جنيهات، وبعض الحيوانات تعاف أكلها، فيضطر مربوها إلى إطعامها وجبات أخرى أرقى منها.

إذاً بدأ الأمر من صفحة تغذوية حكومية كبرى، وتلقَّفه الإعلام الرسمي وشبه الرسمي، إذ لا إعلام حراً في مصر أبداً. وللإعلام في مصر باعٌ في مسألة “الغمر بالمحتوى”، فيفتح المتابع، في أحد الأيام، تلك المنصات، ليجد أنها جميعاً تقول الرسالة نفسها، وذلك لأن المرسل واحد، كما أوضحت إحدى المذيعات، في زلة لا تغتفر، حينما قرأت النص الموجود أمامها مذيلة إياه بعبارة “تم الإرسال من جهاز سامسونغ”، ومن الجهاز نفسه، قبل واقعة “أرجل الدجاج” أيضاً كانت هناك حملات مشابهة للتحذير من أضرار اقتناء الدولار والذهب، اقتصادياً وصحياً، وحتى أضرار اللحمة! 

من سوء التغذية إلى الجوع

يشير بعض الاقتصاديين وخبراء السياسات العامة إلى عصر الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك اختصاراً بأنه كان عصر “سوء التغذية”، فمع الإهمال الصحيِّ في عصره، وشيوع ثقافة أن معدة المصريين تبلع الزلط، وتدنِّي الأجور؛ شرعت الأسر في اللجوء إلى ما يعرف بالوجبات الغنية بالسعرات الحرارية، تجنباً للجوع، حتى لو كان الثمن المدفوع مؤجلاً بالأمراض وسوء التغذية. 

دوَّن باحثو السياسات العامة هذا التحول في سلة غذاء المصريين من البروتين والخضر والفواكه الغنية بالفيتامينات، والتي كانت تكفلها الدولة مدعومة للمصريين في عهود سياسية سابقة، إلى الاعتماد على الأطعمة التي لا وظيفة لها تقريباً إلا سد الجوع من نشويَّات غير صحية وزيوت مرتفعة السعرات في عهد مبارك، باعتباره أثراً للتحول التدريجي في السياسات الحكومية تجاه المواطن، من النمط الحمائيِّ الداعم بجديَّة، شيئاً فشيئاً، إلى البطاقة التموينية منزوعة المضمون، حتى صارت نسبة معتبرة من أطفال مصر، تصل إلى 20%، مصابة بأمراض التقزم والسمنة.

أرجل الفراخ

الجديد في عهد السيسي أنّ البروتين، حيوانياً كان أم نباتياً، لم يختفِ فقط، وإنما اختفت أيضاً مسببات سوء التغذية التي كان الباحثون والمواطنون يشتكون منها أيام مبارك، من زيوت وسمن ونشويّات ضارَّة، لم يتبق شيء تقريباً في سلة غذاء المصريين، بعد أن وصل سعر زيت الطعام، رديء الجودة، إلى ما يساوي دولارين، بسعر الدولار في السوق السوداء، وباتت الأعلاف، من عطارة وتوابل، حلماً لبعض الأسر الّتي كانت تعد، حتى وقت قريب، من الطبقة المتوسطة. 

ومع ارتفاع أسعار الأدوية بسبب سياسات هيئة الدواء المصرية، ذلك الكيان الذي اخترعه السيسي 2019 لتحرير سوق الدواء في مصر، وارتفاع فاتورة الاستيراد، بات كثير من المرضى يلجأون إلى حلول ما قبل الحداثية، فبدلاً عن شراء عدة أدوية لعلاج الاحتقان والصداع والكحَّة، كل على حدة، من الصيدلية لعلاج أعراض الأنفلونزا، يذهب المريض، ببضع جنيهات، إلى العطار، ليعدَّ له وصفةً من الأعشاب رخيصة الثمن، وهي التحولات الّتي طرأت أيضاً في نمط الملابس، إذ باتت بعض الأسر تلجأ إلى “المستعمل” بسبب عدم قدرتها على شراء الملابس الجديدة، لا لارتفاع أثمانها فقط، وإنما لعدم وجود ميزانية لها من الأساس، في ظلِّ استحواذ بنود أهمِّ كالتعليم والدروس الخصوصية والمواصلات على الجنيهات معدومة القيمة الّتي يتقاضاها عموم المواطنين في مصر.

ما الذي تغير؟ 

وفي المجمل، فإنّ تلك الفترة، حقبة الأعوام الـ10 الأخيرة، من يوليو/تموز 2013 إلى الآن، ونحن على أعتاب 2023، تعدُّ فترة ثريَّةً للغاية بالنسبة لباحثي علم الاجتماع المهتمين بالملف المصريِّ، واعذرني، عزيزي القارئ، على استخدام مفردة الثراء في هذا المقام الَّذي لا ثراء فيه أبداً.

ولعلَّ أبرز التّحوَّلات الّتي مسَّتِ الشخصية المصرية، بسبب نمط الإدارة الحالي وسياسات الإفقار المتشابكة من رفع للدعم واختراع للضرائب والرسوم وتخفيض لقيمة العملة وثبات للأجور وزيادة لأسعار كلِّ الخدمات العامة، هو غياب المفهوم الَّذي طالما كان محورياً في حياة المصريِّ وهو “البركة”. أين البركة حينما يباع قرص الطعمية الواحد بجنيهين في المناطق الفقيرة؟ 

وإلى جانب الهشاشة النفسية واليأس والخوف، فإنَّ على الهوامش وفي الظلِّ تنامياً لا تخطئه عين للممارسات الّتي قد تدرُّ دخلاً، بغض النظر عن مضمونها ومشروعيَّتها، فالإنسان أمام الجوع وضغط الفئات الّتي تعيش في “EGYPT” قد يجد نفسه مضطراً للقيام بأفعال لم يتخيل قط أن يقوم بها، كما نجد في نزوح بعض الأسر المصرية إلى تطبيقات صناعة المحتوى الترفيهي وفعل أيِّ شيء، ولو كان غريباً ومستهجناً، أملاً في تحصيل بضعة دولارات، وقس على ذلك.

“هتاكلوا مصر يعني؟” 

ومع ذلك، فبعض أهل مصر، مسؤولون، بشكل ربما لا يقلُّ عن حكَّامها إزاء هذا التردِّي، فالجنرال، وإن كان له بعض الوعود، إلا أن معظم خطابه، منذ أن أطلَّ على المشهد العامِّ، كان ناقماً حاقداً على ما كان يرى أنه نعمٌ يرزح فيها المواطنون بلا حسيب أو رقيب، في وجهة نظره، ما عطَّل مسيرة الدولة لسنوات، قبل قدومه، عن تدشين الكباري والعاصمة والمونوريل والمحطة النووية والقصور الرئاسية… إلى آخر أشكال تلك الفخامة والأبَّهة التي كان يحلم بها للبلاد.

ولم لا؟ ألم يقل، في ظهوره الأول مرشحاً للرئاسة مع لميس الحديدي وإبراهيم عيسى، كلماته الخالدة الّتي تحولت لاحقاً إلى دستور لسياساته في إدارة البلاد: “هتاكلوا مصر يعني؟ أنا مش قادر أدّيك”، ومقترحات تقسيم الرغيف إلى أربعة أجزاء والمصابيح الموفرة؟ كان ذلك عام 2014، أي قبل 10 أعوام تقريباً من الآن.

وها نحن نناقش بيع قناة السويس، بعد بيع غيرها من الأصول الاستراتيجية لتدبير دولارات عاجلة لتوسيع السجون ونقل المقرات الحكومية إلى أخرى فخيمة في العاصمة الجديدة، ولسدِّ الديون القديمة، ألم يقل الرجل، على الهواء مباشرة: “أنا لو ينفع أتباع لأتباع؟”. 

فهذا تحقق وذاك تحقق، مصر صارت “قد الدنيا” فعلاً، كما يعتقد هو في مخياله، دولة وإدارة مركزيَّة متضخمة تستعين بالأدوات التكنولوجية الحديثة لمراقبة مواطنيها وحدودها وجباية الضرائب بكفاءة منقطعة النظير وأبراج شاهقة، ومواطن سيدفع ثمن النفس الذي يتنفسه، عقاباً له وتكسيراً لعظامه على ما تجرّأ على التفكير فيه في يناير/كانون الثاني 2011.

وأذكرُ واقعةً شديدة الدلالة كان الوزير المحبوس باسم عودة قد رواها بعد أحداث يوليو/تموز 2013، حيث قال، على منصة رابعة، إنه كان هناك اجتماع وزاري يناقش تيسيرات معينة على المواطنين اجتماعياً، إبان حكم الرئيس الأسبق محمد مرسي، فلما جاءت الكلمة للسيسي في الاجتماع، امتعض جداً من الطرح، وقال ما معناه إنّ الشعب المصري “اتدلَّع” لسنوات كثيرة، من وجهة نظره، وحان الوقتُ لفطامه. أو كما قال السيسي لاحقاً بنصِّ كلامه: “إحنا مناكلش بس نبني بلدنا”. هذا حصاد ما زرعه بعض المصريين من أشواك لأنفسهم! 

ماذا عن القادم؟ 

الحرب الروسية الأوكرانية الّتي تعزو لها الحكومة في مصر كلَّ الخراب الحالي في البلاد، تدور رحاها منذ فبراير/شباط في أقصى شمال شرق الكرة الأرضيَّة. ويدفعنا ذلك المعطى إلى السؤال والتفكير عمّا سيحدث، لو افترضنا جدلاً، أنَّ حرباً إقليمية قريبة اندلعت بين إسرائيل والخليج من جهة وبين إيران وأذرعها في المنطقة من جهة أخرى؟ كيف سيؤثر ذلك السيناريو على مصر؟ 

تعني منطقة الخليج العربي، بالنسبة لمصر، مصدراً ممكناً دائماً للتدفُّقات الدولاريّة الملياريَّة في وقت الأزمات، بالودائع أو بشراء الأصول كما يحدث الآن، وفي حالة الحرب، فإنّ تلك الدول الصغيرة سيكون لديها أمور أهمّ قطعاً أكثر من التفكير في النظام المصريِّ الذي بدد عشرات المليارات برعونة خلال الأعوام السابقة، فضلاً عن أنّ أي اضطراب، في تلك المنطقة، يؤدي تلقائياً إلى جنون أسعار المحروقات، الّتي تستوردها مصر من الخارج بالعملة الصعبة، كما يؤدِّي إلى العصف بالموارد الأخرى مثل تحويلات المصريين المغتربين في الخليج.. كيف سيكون الوضع إذاً؟ هل سيأكل المصريون أوراق الشجر كما اقترح السيسي مؤخراً؟ 

في مطلع العام الميلادي الجديد، كثير من الأسر المصرية تستحقُّ وساماً لقدرتها على البقاء، مجرد البقاء والحياة، بمعناهما البيولوجي المحض، في ظلِّ تلك الظروف، وبعد عقدٍ من سياسات الإفقار والتَّأديب المتعمدة من الجنرال الذي يعتقد أنّه في مهمة مقدسة لإدارة البلاد وإنقاذ مصر من المصريين الَّذين هم في رأيه “أعدى أعاديها”، وندعو الله أن يرفع هذا البلاء، بحوله وقوته، فإنه لا يعجزه شيء، ونتعشَّم أن يكون الأسوأ قد مرَّ، لا أنه، كما حذرت أذرع الخليج قبل أشهر، ربما لم يأتِ بعد.

احمد سلطان

عربي بوست

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر الأخبار