توفيق كنانعة
لماذا يصرخ الإنسان؟ فقط عندما يتألم، وكل من يتألم من حقه أن يصرخ، خاصة عندما يرى ويلات هذه الحرب الإجرامية بحق الشعب العربي الفلسطيني، ولذلك يصرخ الإنسان، يصرخ لتسمعه كل الدنيا ويشعر معه كل صاحب ضمير إنساني. ومن الطبيعي أن كل صاحب ضمير إنساني يكره الظلم والحرب، خاصة وهو يرى أمام عينيه الإبادة الجماعية لشعب يطالب بحقه في الحرية والاستقلال والعيش الكريم، وإقامة دولته المستقلة، وانهاء الاحتلال الجاثم على صدره منذ عقود من الزمن.
أنا إنسان تخطيت الـ86 من عمري، وفي حياتي لم أر مثل هذا الإجرام الذي يودي بحياة الأطفال والنساء والشيوخ. لقد عشت نكبة شعبي سنة 1948 حيث كنت فتى في ذلك الوقت في الـ11 من عمري وعشتها بكل تفاصيلها منذ بدايتها حتى يومنا هذا. وخلال هذا العمر، عاصرت كل الحروب التي جرت في منطقتنا، وما زال من يدفع ثمنها الغالي هم أبناء شعبي العربي الفلسطيني. وكيف تريدون مني أن لا أصرخ واتألم وأقول بأعلى صوتي أوقفوا الحرب التي تجري بآلة الحرب الأمريكية الإسرائيلية، لأكثر من شهرين على أبناء شعبي المحتلة أراضيه.
نتنياهو منذ صعوده إلى الحكم عمل بكل قوة لمنع السلام مع الفلسطينيين ويقول اليوم إنه الوحيد الذي يستطيع أن يمنع قيام الدولة الفلسطينية
منذ عقود وهذا الشعب من حقه الإنساني والطبيعي أن يقيم دولته المستقلة كباقي شعوب الأرض في هذا العالم، الذي يسمي نفسه «متمدنا»، خاصة أن هذا الشعب يعيش في هذه الأرض منذ أكثر من 7000 عام، وكانت تسمى أرض كنعان، ومنذ ذلك الوقت لم يتركها أصحابها الأصليون، وبقوا فيها، رغم كل النكبات التي حلت بهم. كل شعب محتلة أرضه له كل الحق الإنساني والأخلاقي والقانوني في أن يقاوم الاحتلال بكل الوسائل المتاحة أمامه مثل، المقاومة السلمية وحتى العسكرية. الحرب التي يقوم بها حكام إسرائيل والولايات المتحدة «ضد حركة حماس»، كما يدعون، هي في الواقع ضد الشعب العربي الفلسطيني وهذا ما يفعلونه في غزة والضفة الغربية، حيث وصل عدد الشهداء في غزة إلى ما يقارب الـ 20000 معظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ، وهذا ما يجري أيضا في الضفة الغربية المحتلة، التي يجري يوميا اجتياح مدنها ومخيماتها من قبل الجيش الإسرائيلي وسط الاعتقالات والقتل اليومي. هذه الحرب ضد الشعب العربي الفلسطيني هي بدعم كامل ومطلق من قبل الولايات المتحدة الامريكية في كل المجالات، العسكرية والسياسية والإعلامية. كيف يمكن لأي إنسان عنده ذرة من الضمير الإنساني والأخلاقي ان يرى ويسمع مثل هذه المآسي الوحشية المروعة، كيف له أن يقف متفرجا من دون أن يصرخ بأعلى صوته: أوقفوا هذه الحرب البشعة ضد الشعب العربي الفلسطيني، أوقفوا الإبادة الجماعية. هذا الشعب له كل الحق مثل كل باقي شعوب الأرض بالحرية والاستقلال وإنهاء الاحتلال، الذي ابتلي به منذ عقود من الزمن، وصولا الى إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، على تراب وطنه. منذ مطلع شبابي وحتى يومنا هذا لم أخف ولن أخاف من قول كلمة الحق ضد الظلم والبطش مهما كان الثمن، وقاسيت كثيرا في زمن الحكم العسكري، وحتى بعد انتهاء الحكم العسكري، حيث فرض عليّ وقتها وعلى عدد من الرفاق أمر تحديد الإقامة في مكان سكناي، الذي يعني أني كنت عندما أريد أن أذهب إلى أي مكان للتنقل في وطني الذي لا وطن لي سواه، أن أحصل على تصريح، وهذا كان من الستينيات وحتى مطلع الثمانينيات من القرن الماضي. أقرأ وأسمع عن شباب وصبايا يعتقلون ويحاكمون لأنهم يعبرون عن آرائهم في الوضع الصعب الذي يعيشونه، في ظل أي ديمقراطية تدعونها وتتغنون بها كذبا يتم التنكيل بناس قرروا الصراخ والتعبير عن آرائهم في وجه الظلم؟ وهنا أخص بالذكر الفنانة دلال أبو آمنة التي اعتقلت على خلفية آية قرآنية تقول فيها «لا غالب إلا الله. هل يمكن في ظل مثل هذه الحكومة الاسرائيلية اليمينية المتطرفة، أن تكمموا أفواه جماهيرنا العربية في هذه البلاد، بحيث لا ترفع صوتها ضد هذه الحرب الإجرامية، وتسكت عن جرائم القتل والتنكيل والاضطهاد؟ لا وألف لا، وسنقول بأعلى صوتنا: أوقفوا هذه الحرب البشعة، التي هي من الناحية الفعلية ضد شعبَي هذه البلاد، الفلسطيني والإسرائيلي أيضا.
منذ مطلع شبابي كنت قد بدأت طريقي النضالي عندما تبنيت أكثر الأفكار تقدما في العالم، التي هي الفكر الماركسي اللينيني. ومنذ ذلك الوقت أعمل وأكافح ضد الظلم والاحتلال وضد كل الحروب البشعة وضد كل مرتكبيها، ومثل ما قال رفيقي طيب الذكر توفيق زياد: «أكره سفك الدم وصفارات الإنذار. أكره كل حروب الدنيا الا حربا واحدة هي حرب التحرير». الحكام يتنكرون لحق الشعب العربي الفلسطيني في الحرية والاستقلال والعيش بكرامة وسلام، ويحتلون أرضه بالقوة، ومن الطبيعي أن لهذا الشعب الحق الأخلاقي والإنساني في مقاومة الاحتلال. على حكام إسرائيل ان يفهموا جيدا، أن الانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة هو وحده ما سيجلب الأمن والسلام لشعبي هذه البلاد العربي الفلسطيني والإسرائيلي. لا يمكن لأي قوة مهما كانت عاتية أن تمنع الشعب العربي الفلسطيني من حقه في الاستقلال والتحرر من الاحتلال الظالم، ومن حقه في العيش الكريم، ولذلك على الجميع الجنوح إلى السلام ووقف حمام الدم. الحقيقة أنني أتألم لكل طفل يجرح أو يقتل، إن كان في الحرب أو بغير الحرب، ومن كل شعوب الأرض في هذه الدنيا. فكيف تريدون أن لا أتألم، وأن لا أصرخ عندما أرى كل يوم أطفالا بالعشرات من أبناء شعبي يقتلون بطائرات حكام إسرائيل، التي دمرت عشرات آلاف المباني، وتركت عشرات آلاف الشهداء والجرحى من الأطفال والنساء والشيوخ. وفي الوقت نفسه تدمر المستشفيات وبيوت العبادة، هذه الأماكن التي يجب ان تكون آمنة في زمن الحرب حسب القانون الدولي. وتقولون للعالم إنكم تحاربون حماس. هل محاربة حماس تجري بتدمير البيوت على رؤوس أصحابها أطفالا ونساءً وشيوخا وهم نيام، الأمر الذي يؤدي الى إبادة عائلات بأكملها. سأصرخ بأعلى صوتي وأجند معي كل ذي ضمير إنساني من العرب واليهود المتنورين والعالم أجمع لنقول بصوت عال، أوقفوا هذه الحرب المجرمة ضد أهالي غزة وواضح أن السلام لا يأتي من خلال الحرب، بل يأتي فقط من خلال الانصياع للقرارات الدولية والجنوح نحو السلام.
في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، بدأت عملية السلام التي استبشرنا بها خيرا، وتنفس شعبا هذه البلاد الصعداء، ولكن العنصريين قتلوا رابين ومن بعده قتلوا عرفات، وهما اللذان قادا عملية السلام هذه، ومع قتلهما قتلتم عملية السلام، التي كان من الممكن أن توفر دماء الشعبين. نتنياهو منذ صعوده إلى الحكم عمل بكل قوة لمنع السلام وإقامة الدولة الفلسطينية، ويقول اليوم إنه الوحيد الذي يستطيع أن يمنع قيام الدولة الفلسطينية، هل هذا يريد السلام؟ أنا أقول إنه لا توجد أية قوة في العالم تستطيع ان تمنع قيام الدولة الفلسطينية، إن كان ذلك عاجلا أم آجلا. والحقيقة هي أنه من الأفضل أن يكون عاجلا، منعا لسيل الدماء في هذه البلاد، وهذا هو الأفضل لهم ولكل شعوب هذه المنطقة والعالم أجمع. كلي أمل في أن يأتي حكام عقلاء في إسرائيل وان يجنحوا للسلام وان يعترفوا بحق الشعب الفلسطيني بالحرية والاستقلال، وان ينهوا آخر احتلال عسكري في العالم، ومن الواضح أن كل احتلال لن يدوم، مهما طال الزمن واسألوا التاريخ عن ذلك.
كاتب فلسطيني
القدس العربي