البابور الموقع العربي

الفلسفة اليهودية في مائة عام السؤال الملتهب : اللغة العبرية

167

د. عبد الستار الراوي

اليعازر بن يهودا (1858- 1922) الأديب والصحفي وداعية صهيوني ، وهو لا أحد غيره من أحيا اللغة العبرية وصمم المسار الذي أدى إلى تطورها ؛ ،حيث كان يردد دوماً ( أن “لا وطن بدون لغة ولا لغة بدون وطن)”، وقد عمل جاهداً على تحويلها من مجرد لغة مكتوبة خاصة بالطقوس الدينية إلى لغة منطوقة ومحكية تستعمل في الحياة اليومية لتصبح “لغة اليهود القومية” أسوة باللغات القومية للشعوب الأوروبية المختلفة، اللغة التي بقيت منسية لخمسة عشر قرنًا، لتكون لغة تل أبيب اليوم. وأليعازر نفسه كان أول صهيوني في روسيا يدعو إلى إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين ، ففي مقالة له بعنوان “السؤال الملتهب” The Burning Question التي قدمها لمجلة الفجر Hashahr”” النمساوية والتي كان يتولى بيرتس سمولنسكي (1822- 1885) رئاسة تحريرها في فينا ، ناقش مسألتين حيويتين :

الأولى : الوطن القومي اليهودي : فأشار إلى الحركات القومية في أوربا والتي بفضلها قد حققت شعوب صغيرة استقلالها السياسي، وادعى أن ماهو مشروع وجائز للآخرين، فإنه كذلك لليهود، بلا ريب،

اليعازر بن يهودا

الثانية : قضية اللغة العبرية : طالب إحياءها والتحدث بها، كي تصبح معتبرة ومنتشرة ولغة قومية لعموم اليهود . ولتطبيق هذه الدعوة عملياً ألزم بن يهودا أبناءه الحديث باللغة العبرية فكانوا أوّل من تحدث العبرية الحديثة كلغتهم الأم . ولإيمانه الشديد بأهمية اللغة كعنصر أساسي لإنجاح أي مجتمع التزم بن يهودا بعدم التحدث مع أي يهودي إلا باللغة العبرية وسعى لنشر العلوم الدينية وغير الدينية باللغة العبرية.

كما قام بإنشاء صحيفة Hatzvi الناطقة باللغة العبرية وحرص على أن تكون بسعر زهيد جداً لكي يتسنى للجميع شراءها والاطلاع عليها وخصص باباً من أبوابها لعرض ومناقشة قضايا اليهود الدينية والاجتماعية والسياسية كما عمل على إدخال بعض الكلمات المعبرنة.

وهكذا سيطرت هذه المبادئ والأفكار على عقله وروحه ، حتى اذا استقر به المقام في فلسطين تحقق من أن اللغة العبرية فقيرة في مفرداتها في متطلبات الحياة اليومية ، ولكي تكون قادرة على الاستجابة لعصرها يتعين تطويرها ، فأقدم ين يهودا بهمة على وضع معجم لغوي (Millon) ، صار يشكل أكبر وأعظم إنجازاته العلمية في حياته، والذي جمع مادته من جملة المصادر والمآثر اليهودية: من توراة وتلمود وأدبيات القرون الوسطى ، مضيفاً لمعجمه ما استنبطه هو من المصطلحات والمفردات التي ساهمت في إغناء اللغة العبرية.

وبالتزامه العنيد ألا يتحدث مع الآخرين إلا بلغته القومية أراد أن يبرهن للجميع بأن اللغة العبرية يمكن أن تصبح لغة التفاهم اليومية وأن تكون قادرة على تطوير نفسها باستمرار .

وقد جاء المعجم في تسعة مجلدات وإستغرق اعداده 40 عامًا. أكملت أكاديمية اللغة العبرية هذا المشروع اللغوي الكبير، ليضم هذا المعجم لاحقا سبعة عشر جزءًا كاملًا .

ولم يتوقف بن يهودا عند هذا الحد بل أنشأ عام 1890 مجمع اللغة العبرية وهو الذي لا يزال حتى اليوم يعنى بشؤون اللغة العبرية وآدابها .

وعدت الأدبيات الصهيونية دعوة اليعازر لاحياء وتداول اللغة العبرية معجزة بعثت في هذه اللغة الحياة بعد سبات دام 1600 عاماً، فالمعروف أن العبرية لغة الكلام والكتابة كانت في عصر التوراة، وتوقف إستخدامها كلغة كلام تدريجيا بعد هذه الحقبة من الزمن، لتحل محلها اللغة الأرامية.

ولم تنقطع صلة اليهود بلغتهم على مرّ التأريخ، فكانت العبرية لغة الكتابة والصلاة في الشتات. كما استمر كتاب وشعراء يهود كموشيه بن ميمون وإبن جفيرول بتطوير اللغة المكتوبة وقاموا بتأليف موشحات دينية وكتب في مجال الفلسفة اليهودية.كما ان بن يهودا ابدى استغرابه الشديد من تجاهل الكتاب والروائيين اليهود ما تختزنه اللغة العبرية – لغة التوراة – من “موروث ثقافي خصب” يوفر لهم العديد من الصور التاريخية للمزايا والسجايا الايجابية “كالإقدام والشجاعة” على حد كلام بن يهودا الذي كان يرددها ويتغنى بأصحابها كبطل التوراة يوشع بن نون ومنفذ مذبحة الكنعانيين في اريحا وغيره من الغزاة ورجال الحرب اضافة الى كبار الاثرياء ورجال المال اليهود ، وذلك سعياً وراء استخدام هذه الصور التعبوية للسلوك اليهودي بدلا من الصورالنمطية التقليدية لهذا السلوك وما يعكسه ذلك من مكر وخداع وبؤس ،.

يقول الباحث سمادار العاني: اللغة التي كانت في سبات عادت لليقظة من جديد وبدأت تتكلم وتتكلم” – هذا ما أنشده المطرب (أريك أينشتين) في أُغنيته الشهيرة. وتلخص هذه الجملة بالذات المعجزة التي حدثت للغة العبرية بشكل خاص ولليهودية بشكل عام. وليصبح يوم الثالث عشر من أكتوبر من كل عام، موعدا لاحتفاء تل أبيب بذكرى “إحياء اللغة العبريّة” على يد إليعازر بن يهودا؛

أما بالنسبة للمفهوم القومي فقد طوره بن يهودا وميزه عن مفاهيم من عاصره من أقرانه المفكرين ، وقد عبر عن ذلك بقوله : “… هناك ثلاثة اشياء محفورة بأحرف من نار على راية القومية : (لغة وطن، ، تراث ، ثقافة قومية) . فبالنسبة للوطن دعا إلى انشاء جمعية استيطان يهودية بحيث تكون مهمتها انتزاع أراض في فلسطين وتوطين اليهود فيها من أجل “بعث” الوجود اليهودي مجدداً في المكان الذي وصفه بأنه “الوحيد المناسب لذلك” والذي اعتبره وطنا قوميا لا بديل له “للشعب اليهودي” .

وظل اليهود – في نظره – يشكلون وحدة قومية متكاملة بفضل ديانتهم وعزلتهم ، ولكنه حذّر من أن الشعور الديني بدا يضعف بين اليهود في أواخر السبعينيات من القرن التاسع عشر ، كما أنهم بداوا يخرجون عن نطاق العزلة وباتوا مهددين بالانصهار في الشعوب الأخرى ، ولذا فقد دعا إلى تكثيف الجهود الداعمة لنشاط جمعية الاستيطان اليهودية في مهمتها الاستيطانية .

المصدر : صفحة الكاتب على فيسبوك + رسالة بوست

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر الأخبار