البابور الموقع العربي

اطلبوا العلم ولو في قطر (2)

609

أحمد سعد حمد الله

منذ فترة طويلة وأنا أحاول تحين فرصة الحديث عن تجربة دولة قطر في استضافتها وتنظيمها لبطولة كأس العالم لكرة القدم 2022، فهي بحق تجربة مهمة وملهمة، بل وثرية جدا بالمواقف والدروس والعظات، التي تستوجب التوقف أمامها طويلا، وقراءتها جيدا، بل وتدوينها، والتأريخ لها، ثم الاستفادة منها، خصوصا وأنها تجربة لم تأخذ إلى الآن حقها من التسطير، أو التناول المحايد، الذي يُعّرف الناس بها وبكواليسها الكثيرة والخطيرة>

إلا أن ظروفا عدة حالت دون أن أتمكن من تناولها في الوقت المناسب، فقد كنت أنوي الحديث عنها وحكي الخفي من أحداثها، بمجرد انتهاء البطولة واكتمال التجربة، لكن زحمة وتدافع الأحداث التي مرت بالأمة العربية في السنتين الأخيرتين، من حروب وكوارث إنسانية، جعلتني أرجئ الأمر أكثر من مرة، حتى مر على انتهاء المونديال عامين كاملين، مما صعّب الأمر علّي أكثر وأكثر، حيث فقدت بذلك فرصة اختيار الوقت المناسب لتناولها، وطرق حديدها وهو ساخن، إلى أن وجدت في قرار جامعة قطر الأخير بإنشاء كلية متخصصة في التدريب والإدارة الرياضية، فرصة سانحة لا يجب تفويتها، للولوج إلى الهدف، وفتح ملف التجربة سريعا، كي لا تفّوت علّي الأحداث الفرصة مرة أخرى، ولماذا رأيت في قرار إنشاء الكلية الجديدة الفرصة لارتباطه الوثيق بينه وبين استضافة قطر للمونديال،

وكما ذكرت في المقال السابق، فإن إنشاء كلية جديدة للتدريب والإدارة الرياضية بجامعة قطر، يأتي امتدادا لمشروع تنظيم كأس العالم، لأنه يجئ ضمن خطة استراتيجية طويلة المدى، وضعتها القيادة القطرية لاستثمار قدراتها وإمكاناتها البشرية والمادية، في تحقيق نجاحات أدبية ومعنوية، بل ومادية أيضا، وذلك انطلاقا من رؤية قطر الوطنية 2030، تلك الرؤية التي يقودها ويتبناها أمير الدولة بنفسه الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وتهتم بالنتائج قدر اهتماها بالمقدمات، وهو أمر وضعه المسؤولون عن ملف المونديال في حسبانهم منذ اللحظة الأولى من الفوز بالتنظيم، وقد ظهر ذلك من الاسم المختار بعناية فائقة للجنة المنظمة للبطولة وهو ” اللجنة العليا للمشاريع والإرث ” فهو اسم يحمل في كلماته الدلالة والرؤية للاستراتيجية القطرية المستهدفة من تنظيم كأس العالم، وهي استراتيجية ترمي إلى تحقيق المعادلة الصعبة، بأن تكون الرياضة في خدمة الشعب والدولة، وليس العكس كما هو حاصل في معظم دول العالم، وقد رأت القيادة القطرية أن تنظيم حدث بهذا الحجم، لا يجب أبدا أن يقتصر على خدمة المظهر الحضاري للدولة فحسب، أو على زيادة قوتها الناعمة، إنما يجب أن يخدم المجتمع القطري بكافة مكوناته، حاضرا ومستقبلا، فجاءت كلمة ” المشاريع ” لتعبر عن الطفرة الإنشائية الهائلة للبنى التحتية والفوقية التي لم تكن موجودة قبل المونديال، حتى بدت قطر بعد المونديال، غير قطر التي كانت قبله، أما كلمة ” الإرث ” فجاءت لتعبر عن الإرث البشري والحجري الذي سيتركه تنظيم المونديال، وهو ما أكد عليه كثيرا السيد حسن الذوادي الأمين العام للجنة، ويٌقصد من الإرث البشري، استغلال هذا الحدث المهم، لتأهيل الألاف من الشباب القطري، وإعدادهم ككوادر صالحة وقادرة على العمل في المهام الكبرى مستقبلا، سواء كان هذا الإعداد عن طريق معاهد التدريب والتطوير التي تم استحداثها بعد الفوز بالتنظيم، مثل معهد جسور الذي تأسس 2013، أو بإنشاء كليات جديدة، مثل كلية التدريب والإدارة الرياضية التي تنطلق العام القادم، أما إرث الحجر فقد تمثل في المنشآت الرياضية العملاقة، من ملاعب وفنادق وصالات تدريب وخلافه، وهي منشآت يُتوقع أن تخدم البلد لسنوات طويلة، كما يُنتظر أن تُفيد عشرات الأجيال القادمة..

ولم تكن تلك الرؤية فقط هي التي دفعتني للحديث عن التجربة القطرية والإصرار على فتح ملفها، إنما الذي دفعني لذلك، وأزني أزا عليه، هو أن التجربة القطرية لم تأخذ إلى الآن حقها من البحث والقراءة والدراسة والتحليل، خصوصا وأنها لم تكن محض تجربة لدولة شابة نظمت حدثا عالميا، سبقها إليه 19 دولة أخرى، وإنما لأن التجربة القطرية كانت تجربة استثنائية عامرة بالأحداث الساخنة، لا أبالغ إذا ما وصفتها بالمعركة الكبرى، التي استمرت أحداثها 12 سنة كاملة، بدأت منذ الفوز بالتنظيم ( 2 ديسمبر 2010) وتواصلت حتى صافرة النهاية ( 18 ديسمبر 2022) تعرضت قطر خلالها لعشرات الحروب الباردة والساخنة، وواجهت فيها العديد من حملات التشويه والتشكيك والتشهير والضرب تحت الحزام، فيما كانت أشد هذه الحروب وأعنفها، هي حرب الحصار السياسي والاقتصادي، الذي فرضته عليها أربع دول عربية، منها ثلاث من الجيران، والرابعة لا تربطها بقطر أية حدود، ذلك الحصار الذي أُعلن عنه في الخامس من يونيو 2017، واستمر خمس سنوات كاملة، ورٌفع في الرابع من يناير 2021، وهي أزمة كان من الممكن أن تضرب التجربة القطرية في مقتل، وتقضي على الحلم الجميل قبل أن يتحقق، حيث جاء الحصار في توقيت حرج جدا، كانت قطر فيه قد ارتبطت بعقود تجارية طويلة الأجل مع كثير من الموردين والمقاولين المنتمين لهذه الدول، وكلها عقود تعلقت بالأعمال الإنشائية الخاصة بالمونديال، فضلا عن أنه – أي الحصار – قطع عنها كل الطرق البرية والمائية والجوية المارة بتلك الدول، وهو ما جعل شركات المقاولات الأجنبية والمحلية المسؤولة عن مشروعات المونديال، تضطر للبحث عن طرق أخرى بديلة، لاستيراد موادها، أبعد كثيرا من الطرق القديمة، وبتكلفة مالية مضاعفة، عوضتهم عنها الدولة القطرية، بل وتتعاقد مع موردين ومقاولين جدد غير الذين أجبرتهم دول الحصار على إنهاء معاملاتهم مع الدولة القطرية، ورغم ضراوة الحرب، والصدمة العنيفة التي تلقتها قطر حينها، إلا أن القيادة السياسية للدولة تعاملت بحنكة وحكمة بالغين تُحسد عليهما، حيث مارست أعلى درجات ضبط النفس، وهدوء الأعصاب، حتى لا تخسر المعركة، وقد كان لهدوء أعصابها وفن إدارتها للأزمة دورا كبيرا، في أن تخرج من المعركة محققة أكبر وأغلى انتصار في تاريخها.. وفي هذا تفاصيل أخرى كثيرة، نذكرها في مقالات قادمة بإذن الله.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر الأخبار