أحمد سعد حمد الله
تحل الذكرى الرابعة والخمسين لوفاة الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر (28 سبتمبر 1970) والأمة العربية تعيش أوضاعا مأساوية، حيث الحروب والصراعات تحيط بها من كل جانب، وتنذر بتفتيها، وإعادة تقسيمها من جديد..
مات عبد الناصر وقد كان يسعى لجمع الأمة العربية وتوحيدها، في قبضة واحدة، تحقيقا لحلم القومية، ذلك الحلم الذي بنى عليه مشروعه السياسي، وصنع منه شعبيته الواسعة، حيث كان له أتباعا ومريدين يقدرون بالملايين، جميعهم يتبع فكرا سياسيا جامعا، يدعى الفكر الناصري، فيما يٌطلق على هؤلاء الأتباع والمريدين اسم الناصريين، وهم الذين يٌفترض فيهم الاجتماع على هدف مشترك، هو القومية العربية، بيد أن ذكرى الوفاة تحل اليوم، وقد تبخرت معظم شعبية عبد الناصر، التي صنعها، حيث لم يبق من مريديه وأتباعه سوى شرذمة قليلة، لا يزيد عددها عن عدد أصابع اليد الواحدة، إلا أن هذه القلة القليلة، لا تزال تعض على ناصريتها بالنواجذ، بل إن منهم من يردد أن إصلاح الأمة العربية وجمعها على كلمة سواء، لن يتحقق إلا بظهور عبد الناصر جديد، أو استنساخه مرة أخرى..
والحقيقة أنني أفنيت وقتا طويلا في القراءة والاطلاع، بحثا في سيرة جمال عبد الناصر، وأفكاره السياسية، ومنهجيته في الحكم، وطريقة إدارته لسياساته الداخلية والخارجية، خاصة تلك المتعلقة بالدول العربية، أملا في التوصل إلى معرفة المبررات التي جعلت الناصريين يصبحون ناصريين، فلم أجد على النار هدى، بل دون أن أصل لميزة واحدة، تحضني على التفكير في اعتناق هذا الفكر، أو تحمسني على دخول الناصرية، بل لا أخفي سرا إذا قلت إن كل ما قرأته وحصلته عن تلك الحقبة، وطريقة إدراة عبد الناصر لشئون الحكم، جعلني أبصم بالعشرة، أن غالبية الشر الذي تعيشه الأمة العربية الآن، ومعظم النار الذي يحرقها، كان من مستصغر شرر عبد الناصر، ذلك الشرر الذي تولد بسبب حبه القاتل للشهرة والزعامة، ذلك الحب الذي كان أقرب إلى الحالة المرضية منها إلى الصحية، حيث كان يسعى طوال الوقت لأن يصبح امبراطورا، يحكم الوطن العربي بأكمله، وليس مصر فقط، فتلك الحالة الجامحة التي كانت تحكم كل تصرفاته وأفعاله، هي التي جعلته مستعدا لفعل أي وكل شيء، في سبيل تحقيق الزعامة، حتى وإن وصل الأمر به إلى خراب وتدمير كل الدول العربية التي كانت أنظمتها الحاكمة، تقف ضد تحقيقه لتلك الرغبة، فعندما نتأمل التاريخ، نجد أن معظم الأزمات والصراعات الداخلية والانقلابات العسكرية التي شهدتها غالبية الدول العربية خلال فترة حكمه، كان هو المحرض عليها، أو المحرك لها، وفي هذا خاض الكثير من الحروب الباردة والساخنة، ضد الكثيرين من قادة وزعماء الدول الأخرى، ففي العراق دخل في حرب ضروس مع الزعيم عبد الكريم قاسم، وفي السعودية مع الملك سعود بن عبد العزيز آل سعود، وفي الأردن مع الملك حسين بن طلال، وفي لبنان مع الرئيس كميل شمعون، فضلا عن تدخلاته المستمرة في شئون سوريا، واليمن والسودان، وفي سبيل ذلك كان يوظف كل إمكانات الدولة المصرية المادية والإعلامية، حيث لعبت الإذاعة المصرية (صوت العرب) دورا بالغ الأهمية في نشر الفتن وإحداث الوقيعة داخل تلك الدول وبين بعضها البعض، وبالمناسبة مصر تتجرع اليوم نفس الكأس، بتدخل كل من السعودية والإمارات في إدارة شئونها، والتأثير في قراراها، فالجزاء من جنس العمل..
وفي ظل هذه السياسة النرجسية التي كانت تحكم تصرفات عبد الناصر، لم يكن غريبا أن نجد مصر وقد تكبدت في فترة حكمه، ومن بعده أثمانا باهظة، تكلفة لنزقه وشهوته الجامحة للزعامة، فحرب مصر في اليمن ( 1962 – 1967) التي خربت الاقتصاد المصري، وراح بسببها الآلاف من الضباط والجنود المصريين، لم يكن لها دافع سوى البحث عن الزعامة الخارجية، كزعامته الداخلية، وهي أيضا التي جعلته يدخل حربا ضد إسرائيل (1967) لم تكن مصر جاهزة لها، فكانت النتيجة أن حصلت النكسة، وتجرعت مصر مرارة الهزيمة، حيث خسرنا الحرب والأرض، ومواقف وقرارات أخرى كثيرة خاطئة، مازالت مصر والأمة العربية يدفعون ثمنها غاليا، وبالرغم من كل هذا، نسمع القلة القليلة من الناصريين، يرددون نفس الأسطوانة المشروخة، بأنه يكفي عبد الناصر فخرا أنه كفل مجانية التعليم لجميع المصريين، وقضى على الإقطاع، وأصدر قانون الإصلاح الزراعي، ثم وعندما تفتش وراءهم، نجد أن مجانية التعليم كانت موجودة أصلا من قبل عبد الناصر، وبالنسبة للقضاء على الإقطاع، فهذا قرار لم يستفد منه الشعب بشيء، فقد جاء لخدمة ضباط الجيش فقط، فهم الذين ورثوا ألقاب البكوية والباشوية وأصحاب المعالي، وهم الذين انفردوا بالسلطة، وهم الذين استأثروا بالثروة، أما قانون الإصلاح الزراعي، فباعتراف الفلاحين أنفسهم، فقد دمر الأرض الزراعية، وزاد الفلاحين فقرا!
في النهاية وبعد كل ما تقدم أسأل: ألم يأن الأوان للمراجعة، وإعلان وفاة الناصرية؟!