أحمد سعد حمد الله
في مقالنا السابق، من سلسلة مقالاتنا التي عنوانها بالأعلى، أوضحنا كيف أن فوز قطر بتنظيم بطولة كأس العالم لكرة القدم 2022، فتح عليها أبواب الجحيم، وأشعل ضدها نيران الحروب، وفجّر في وجهها براكين الحسد والغيرة، ورأينا كيف أن هذه الحروب بدأت مبكرا، وكانت أسرع مما كان هو متوقع، وأشد مما كان هو مظنون، وأقرب مما كان هو مٌتخيل، حيث بدأت في مارس 2014 أي بعد ثلاثة أعوام فقط من الفوز بالتنظيم، وقبل ثمانية أعوام كاملة من انطلاق البطولة، بإعلان ثلاث دول، من الدول الست الأعضاء بمجلس التعاون الخليجي، هي السعودية والإمارات والبحرين، قطع علاقاتهم الدبلوماسية مع الدولة القطرية، وسحب سفرائهم منها، بدعوى دعم قطر للإرهاب، واستضافة بعض الإرهابيين، والذين هم في الأصل، قيادات في حركة حماس الفلسطينية، أو مسؤولين بجماعة الإخوان المسلمين!
وقد بينّا في هذا المقال، كيف أن قطر نجحت في احتواء الحرب مبكرا، باستجابتها لبعض الطلبات المفروضة عليها، حيث قامت بإيقاف بث قناة ” الجزيرة مباشر مصر” وإبعاد بعض مسؤولي حماس، وعدد من أعضاء جماعة الإخوان خارج البلد، إلا أن استجابتها هذه، بدت وكأنها لم ترض طموح بعض الكارهين، ممن كانوا يتطلعون لما هو أكبر وأبعد من ذلك، ألا وهو تحجيم الدولة القطرية، وإيقاف طموحها، ومنعها من صناعة أي إنجاز، دوليا أو قاريا أو حتى عربيا، ولأنهم كانوا يدركون أن تنظيمها لبطولة كأس العالم، سيمثل إنجازا تاريخيا قد لا تصل إليه دولة غيرها بالشرق الأوسط، فإن منعها من تحقيقه، كان على رأس الأهداف المطلوب بلوغها، حتى وإن لم يٌعلن ذلك صراحة، لكن اللبيب بالإشارة يفهم!
واستجابة قطر للمطالب جاءت سريعة جدا، فقطعت بذلك الطريق أمام أصحاب النوايا السيئة، ممن كانوا يتربصون بها الدوائر، ويريدون الزج بها في متون حرب لم يكن هناك مبرر لها، ومن ثم لجأوا للنوع الأخر من الحروب، ألا وهو الحروب غير الشريفة، أو قل القذرة بلا تثريب عليك، أملا في تحقيق المراد، بإفساد العرس المونديالي، ومنع قطر من الوفاء بالتزامها بتنظيم البطولة.
ولعل ما أوجع الحاقدين أكثر، وزاد من حنقهم تجاه قطر والقطريين، هو فطنة القطريين لأبعاد تلك الحرب، وحكمة القيادة السياسية، في التعامل معها، والرد عليها، حيث التزم المسؤولون القطريون، أعلى درجات ضبط النفس، والحرص على الثبات الانفعالي، والتحلي بفضيلة الصبر لأقصى الدرجات، وقد تمثلت مهارة مسؤولي الدولة القطرية في هذه المعركة، في ردودهم الدبلوماسية المنضبطة، التي تجنب الوقوع في أخطاء يمسكها الخصوم عليهم، ثم الرد بدهاء على التهم الموجهة، والدحض القوي للشائعات والأكاذيب، فضلا عن الحذر الشديد، من الانسياق وراء كل محاولات الاستفزاز، لجر شكل الدولة، أو إدخالها في مواجهة مباشرة، لم يكن هذا أوانها. فمن اللحظة الأولى للحرب، كانت القيادة السياسية واضحة في موقفها، ومحددة لفعلها، وراسمة لهدفها، برفضها الانجرار وراء الشائعات، والأخبار المغلوطة، لنفيها أو تكذيبها، أو حتى بالرد على التهم الملفقة التي بنى عليها البعض مواقفهم العدائية منها، حيث قصرت الردود على الاتهامات التي تراها منطقية فقط، فقد كان المسؤولون القطريون، حريصون أشد الحرص على ألا يشغل الدولة شاغل عن استعداداتها لاستضافة المونديال، كما كانت حريصة على عدم نقل مشاعرها القلقة مما يحدث، إلى الشركاء، والشركات العاملة في مشروعات المونديال، فيؤثر ذلك على أعمالهم، فقد كان التركيز منصبا على إنجاز كافة المشروعات في توقيتاتها المحددة، خصوصا مشروعات الاستادات والمنشآت الرياضية، وأماكن إقامة الجماهير والضيوف، وذلك لتسليمها للاتحاد الدولي في المواعيد المتفق عليها..
وفي الوقت الذي كان فيه الكثيرون يوجهون الانتقادات للدولة القطرية على طول صبرها، وبرودة أعصابها، وتجاهلها للاتهامات، بدا المسؤولون القطريون، وكأنهم يقرأون الطالع، ويرون المستقبل، بتوقعهم لانكشاف أمر المتآمرين سريعا، حيث لم تمض فترة طويلة على انطلاق تلك الحروب، حتى صدق حدس القطريين، وتأكدت تنبؤاتهم، بانكشاف الكثير من الحقائق والأسرار التي كانت خافية على الناس، حيث ظهر تقرير صحفي، وصفته وسائل الإعلام العالمية وقتها بأنه خطير، ذلك التقرير الذي نشرته صحيفة “فيلت فوش” السويسرية مطلع عام 2016،ونقله عنها موقع “إنسايد وورلد فوتبول” حيث كشفت فيه الصحيفة، بالأدلة والمستندات، والأسماء أيضا، عن واحد من أهم المخططات التي كان تحاك ضد قطر، عبر حملة منظمة، خبيثة الأهداف، مدفوعة الأجر، تقودها مؤسسة مقرها أستراليا، هدفها الرئيسي، هو تجريد قطر من تنظيم المونديال.
ولأسباب سنتعرف عليها في السطور القادمة، استهدف المخطط الشيخ سلمان بن إبراهيم آل خليفة رئيس الاتحاد الأسيوي لكرة القدم، الذي كان مرشحا في تلك الفترة لانتخابات رئاسة الاتحاد الدولي لكرة القدم، وهي الانتخابات التي جرت في الأسبوع الأخير من شهر فبراير 2016، وكان ينافسه فيها، كل من السويسري جياني إنفانتينو الرئيس الحالي للاتحاد الدولي، والأمير علي بن الحسين شقيق ملك الأردن.
تفاصيل المخطط
ابتداء لابد من القول بإن هذا التقرير جاء في توقيت مهم للغاية، توقيت كانت فيه الشائعات والأخبار الكاذبة الساعية لتشويه سمعة قطر، والتحريض على سحب تنظيم المونديال منها، تجري على قدم وساق، وتسري في الأوساط الداخلية والخارجية، كسريان النار في الهشيم، خصوصا وأن تلك الأخبار والشائعات رافقتها حملات إعلامية شرسة داخل الوطن العربي وخارجه، شاركت فيها العديد من الدول، منها دول عربية كبيرة مثل مصر، التي كانت تناصب قطر وقتها العداء، لحساب دولة أخرى غنية معروفة بكراهيتها لقطر، ومن ثم فإن ظهور هذا التقرير في ذلك التوقيت، خدم قطر كثيرا، لكشفه جزءا مهما من أبعاد المؤامرة، وجعل الكثيرين ممن بلبلتهم الشائعات، يستعيدون ثقتهم بالدولة القطرية وقدرتها على إنجاح المونديال، لا سيما وأن الصحيفة كانت قد وثّقت جميع الوقائع الواردة، بالأدلة والمستندات، وبتواريخ حدوثها، بل وبأسماء أصحابها، حيث قدم التقرير مجموعة من رسائل البريد الإلكتروني لعدد كبير من المراسلات لمجموعة من الأشخاص الأعضاء بالحملة، وأشارت الصحيفة إلى أن أحد أهداف تلك الحملة، هو حل منظمة الفيفا، فيما كان الهدف الأهم والأكبر، هو سلب قطر أحقيتها في تنظيم المونديال، وكشفت الصحيفة عن أن ممول تلك الحملة، كان هو الاتحاد الدولي للنقابات (ITUC) بقيادة أمينه العام السيدة “شاران بورو” والتي تعمل ناشطة دولية في الدفاع عن حقوق الإنسان والعمال والمناخ، وقد أوضحت الرسائل المتبادلة التي نشرها التقرير، عن جود تمويل ممنهج لحملة تسعى للنيل من البحريني الشيخ سلمان بن إبراهيم، لإسقاطه في انتخابات رئاسة الاتحاد الدولي، حيث كان ممولو الحملة يعتقدون بأن نجاح الشيخ سلمان في الانتخابات، سيخدم الدولة القطرية، ويساعد في نجاحها التنظيمي للمونديال، ومن هذا المنطلق كانت قطر تدعمه في الانتخابات، رغم أن دعم قطر له لم يكن بدافع الاستفادة من موقعه إذا صار رئيسا للفيفا، وإنما الدافع هو الجيرة والنسب والعلاقات الأخوية التي تربط بين أبناء البلدين قطر والبحرين، تلك العلاقات التي لم يراعيها الأخرون في تعاملهم مع قطر! وقالت الصحيفة إن الحملة انضم لها عدة شخصيات رياضية من استراليا ومن خارجها، عبر رفع شعارات – وصفتها الصحيفة بالخادعة – مثل تطهير الفيفا، وتطوير لعبة كرة القدم، والارتقاء بالمسابقات، فيما أن الأهداف الحقيقية هي التي ذكرناها!
ووفقا للصحيفة فإن الحملة ضمت ثمانية أشخاص هم: (تيم نونان) مدير الاتصالات بالاتحاد الدولي للنقابات، ومارسيدس بونيتا” عضو الاتحاد، وجيمي فولر صاحب مصنع للملابس الرياضية، وأليكس مدير حملة حركة الحقوق المدنية، وديبورا أنجر” عضو منظمة الشفافية الدولية، والصحفية جيما ستيوارت، بالإضافة إلى النائب البريطاني داميان كولينز العضو بحزب المحافظين، والذي كان يؤدي دورا أخر من خلال موقعه السياسي الكبير، سنذكره في مقالات قادمة بإذن الله، وقد قام هذا الفريق باستئجار وكالة تدعى (EMC) للعلاقات العامة، وهي وكالة ذات صلات وثيقة بالكثير من الوكالات الإعلامية الشهيرة، وكانت الوكالة بمثابة المنصة لإطلاق الاتهامات والشائعات ضد قطر، وكانت الصحفية جيما ستيوارت، هي مسؤولة التواصل والتنسيق بين أفرادها.
المؤامرة باليوم والساعة
جاءت الوقائع التي سردها التقرير الصحفي، أشبه الزلزال الذي هز الأوساط الرياضية والإعلامية، بل والسياسية أيضا، لما ضمه من أخبار ومعلومات غاية في الحساسية، جمعت بين الرياضي والإعلامي والسياسي في بوتقة واحدة، كما كشف تداعيها، وسرعة تتابعها من شهر مايو 2015 إلى ديسمبر لنفس العام، عن أن القائمين على المهمة لديهم تعليمات، بإنهاء المهمة في أسرع وقت ممكن، وكان وجه العجلة هنا، هو أن انتخابات رئاسة الفيفا ستجري في فبرير 2016، والحملة تستهدف إنجاز بعض المهام قبل هذه الانتخابات.. وقد تضمن التقرير ثماني وقائع، كانت عبارة عن رسائل إلكترونية متبادلة، كل واحدة منها أخطر من أختها، الأولى كانت في السابع والعشرين من مايو، والأخيرة في العشرين من ديسمبر..
1 – في السابع والعشرين من مايو 2015، أي قبل يومين فقط من فوز السويسري جوزيف سيب بلاتر برئاسة الفيفا للمرة الخامسة على التوالي، كانت الشرطة السويسرية بالعاصمة زيورخ، قد ألقت القبض على سبعة من موظفي ومسؤولي الفيفا بتهم متنوعة، بين الرشوة والفساد المالي وغسيل الأموال، وقد لعبت الولايات المتحدة الأمريكية – وهي إحدى الدول التي خسرت في سباق التنظيم أمام قطر – دورا رئيسيا في تحريك تلك القضية، انتقاما من بعض المسؤولين بالفيفا وعلى رأسهم الرئيس جوزيف بلاتر، الذي قرر الاستقالة على الفور بعد تفجر تلك القضية، حرصا على أسمه سمعته.. في المقابل رأى المتربصون بالفيفا وبقطر، أن ظهور تلك القضية فرصة لا يجب تفويتها، ولابد من استثمارها لتحقيق كل الأهداف التي انطلقت من أجلها الحملة، وقال التقرير، إن الأسترالية “جيما ستيوارت” التي تولت مسؤولية الحملة الصحفية ضد الفيفا، كانت متحمسة جدا بعد تفجر القضية، وقد ظهر هذا واضحا في رسالتها الالكترونية إلى الشريك ” تيم نونان ” مدير الاتصالات بالاتحاد الدولي للنقابات، قالت فيها: ” بعد ظهور تلك القضية، فإنه يتوجب علينا الآن أن نعمل على إبطال ملفي قطر وروسيا لتنظيم كأس العام”
2 – الرسالة الثانية التي تضمنها التقرير، تم إرسالها بتاريخ يوم 15 يونيو 2015، سألت فيها ستيوارت زميلها نونان، عن مدى إمكانية إطلاق الدعوة إلى إصلاحات لكرة القدم، لجعل الحملة تبدو أكثر واقعية، ودون أن تشي بوجود مخطط، وقدمت ستيوارت بعض الاقتراحات، إلى مسؤول الاتحاد الدولي للنقابات قالت فيها: ” نحن بحاجة للعثور على شركاء ليكونوا إلى جانبنا، لكن بشكل أكثر لطفا”
3 – كما كشفت الصحيفة عن مجموعة رسائل أخرى حملت تاريخا واحد هو التاسع والعشرين من يونيو 2015، أرسلت جميعا الصحفية ستيوارت إلى زملائها في الحملة وهم: “أليكس” مدير حملة الحقوق المدنية بالاتحاد، و مارسيدس بونيتا” عضو الاتحاد، وجيمي فولر” مالك لمصنع ملابس رياضية، حيث طالبتهم ستيوارت، بممارسة المزيد من الضغط الإعلامي والمجتمعي على الفيفا، قبل انعقاد جمعيته العمومية، وذلك بهدف التأثير على مسؤولي الاتحادات الوطنية في مختلف دول العالم كي يتبنوا نفس مواقفهم”
4 – الرسالة الرابعة كانت بتاريخ التاسع من سبتمبر 2015، أرسلتها “ستيوارت” إلى “تيم نونان” قالت فيها: ” الأمير الأردني علي بن الحسين أعلن للتو أنه قد يرشح نفسه مرة أخرى لرئاسة الفيفا، إذا تحقق ذلك فنحن سنحقق فائدة كبيرة في حال فوزه بالانتخابات، وسقوط الشيخ سلمان إبراهيم، لذا يجب أن نحول بعض أموال حملتنا، إلى مهمة تشويه الشيخ سلمان، والعمل على زيادة خصومه”
5 – رسالة أخرى بتاريخ 25 سبتمبر 2015 أعقبت فتح المدعي العام الفيدرالي السويسري ملف قضية فساد ضد سيب بلاتر والفرنسي ميشيل بلاتيني، أرسلتها “ستيوارت” لشركاء الحملة، قالت فيها ” ينبغي علينا جميعا أن نزيد من الحرب ضد بلاتر للضغط عليه، وإرغامه على تقديم الاستقالة”
6 – الرسالة السادسة بتاريخ 29 سبتمبر 2015، كانت هذه المرة من السيدة ” ديبورا أنجر” عضو منظمة الشفافية الدولية، أرسلتها إلى شركاء الحملة، قالت فيها: “يبدو أن كلا من بلاتيني وبلاتر متمسكان بموقفيهما، لذا سيكون من المجدي، عقد اجتماع لفترة وجيزة عبر تطبيق “سكايب” للحديث عن الخطوات المقبلة، وأمور أخرى، من بينها بدء التحرك عالميا في أكتوبر، حيث يمكن أن نقنع الناس باختيار واحد بعينه من المرشحين في الانتخابات المقبلة”
7 – الواقعة السابعة كانت بتاريخ السابع من أكتوبر 2015، عندما عقدت ” ديبورا أنجر” اجتماعا عبر الإنترنت “كونفرانس كول” بحضور كل من، ومرسيدس ونونان، ستيوارت وفولر، وقد تم تلخيص هذا اللقاء، برسالة عبر البريد الإلكتروني من أنجر، جاء فيها أنهم اتفقوا على أن القيام بحملة، ضد الجهات الراعية للفيفا، مثل كوكا كولا وأديداس، من أجل التأثير عليها، لاتخاذ نفس موقفهم، فضلا على التخطيط لتنظيم مناظرة تلفزيونية بين المرشحين لرئاسة الفيفا، بهدف دعم المرشحين الذين يتحمسون لهم، وإحراج منافسيهم أمام الرأي العام”
8 – الواقعة الثامنة كانت بتاريخ 20 ديسمبر 2015، حيث تواصلت الرسائل بين مختلف الأطراف، بغرض الضغط على السلطات السويسرية، وما أسمتهم الحملة بالزملاء في الحكومة السويسرية، وكان ذلك أكثر وضوحا بحسب الصيغة، عبر رسالة بالبريد الالكتروني من “ديبورا أنجر” والتي كتبت إلى الاتحاد الدولي للنقابات، بالإضافة إلى فولر ومرسيدس، “لقد قمنا بالتحقق من خلال الزملاء السويسريين، بإمكانية قيام الحكومة السويسرية بحل الفيفا، لكنهم اكتشفوا أنه لم يكن هناك إرادة قوية داخل البرلمان السويسري للقيام بذلك”!!