مصر في “الفخ الصيني”.. من تجارة الشنطة إلى المدن الصناعية
هل تمسك الصين بمفاصل الاقتصاد المصري وتقضي على الصناعة المحلية
هجمة صينية ناعمة: استثمارات تغزو الأسواق وتُهدد الصناعات الوطنية في مصر
بين الحاجة للعملة والخطر على الصناعة.. مصر في فخ التبعية الاقتصادية لبكين
البابور العربي – تقرير
على مدى أكثر من عقدين، تحوّلت علاقة الصين بمصر من مجرد تجارة بسيطة عبر ما يُعرف بـ”تجارة الشنطة”، حيث كان الباعة الصينيون يجوبون شوارع القاهرة حاملين حقائبهم المليئة بالبضائع زهيدة الثمن، إلى واحدة من أكبر قصص التوسع الاستثماري في العالم العربي. وباتت مصر اليوم هدفًا رئيسيًا في استراتيجية التمدد الاقتصادي الصيني، الأمر الذي يثير جدلاً واسعًا بين الفرص التي يوفرها هذا التوسع، والمخاطر التي يُخفيها على المدى الطويل.
من هنا يمكن القول أن الاستثمار الصيني في مصر ليس شراً مطلقًا، كما أنه ليس خيرًا بلا ثمن. هو سيف ذو حدين؛ إن أُحسن توظيفه، يمكن أن يشكّل فرصة ذهبية لنهضة صناعية. أما إذا استمر بلا تنظيم ولا شروط صارمة، فسيكون بداية لفقدان مصر استقلالها الصناعي لصالح قوة اقتصادية عظمى تتحرك بصمت، ولكن بفاعلية هائلة.
من الشنطة إلى المناطق الصناعية
بدأت القصة ببضائع بسيطة تُباع من باب إلى باب. ومع الوقت، رسّخ التجار الصينيون مكانتهم في الأسواق المصرية من خلال منافسة شرسة على السعر.
هذا التمدد أخذ طابعًا أكثر تنظيمًا مع دخول الشركات الصينية الكبرى إلى مصر، خصوصًا بعد 2018 حين اشتدت الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة في عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
مع فرض رسوم جمركية أمريكية خانقة على السلع الصينية تجاوزت 145%، بدأت بكين تبحث عن “منافذ طوارئ” لمنتجاتها. وكانت مصر، باتفاقياتها التجارية الإقليمية وموقعها الاستراتيجي وسوقها الواسع، الوجهة المثالية.
2025عام الهيمنة الصينية في مصر؟
تشير الأرقام الرسمية إلى أن عام 2025 شهد انطلاقة جديدة وقوية في العلاقات الاقتصادية بين البلدين، حيث بدأت أكثر من 300 شركة صينية مشاريعها في مصر، وسط توقعات بوصول الاستثمارات إلى نحو 3 مليارات دولار خلال أشهر معدودة. وفي المجمل، وصل حجم الاستثمارات الصينية المباشرة إلى 9 مليارات دولار بحلول نهاية عام 2024.
تتركز معظم هذه الاستثمارات في المناطق الصناعية مثل “العين السخنة” و”القنطرة غرب”، بالإضافة إلى توسعات ملحوظة في “6 أكتوبر” و”العاشر من رمضان”.
مزايا أم فخ ناعم؟
لا شك أن مصر، التي تعاني من أزمة في العملة الصعبة، ترى في هذه الاستثمارات متنفسًا اقتصاديًا مهمًا. فالصين توفر: سيولة نقدية ضخمة، وآلاف فرص العمل، ونقل تكنولوجيا متقدمة، قدرة على فتح أسواق تصديرية جديدة، لكن في الجانب الآخر من المعادلة، تكمن أخطر التحديات: انهيار الصناعات المحلية.
الصناعات المصرية تدفع الثمن
تؤكد تقارير من داخل غرف الصناعة المصرية أن قطاعات كاملة مثل الأثاث والمنسوجات تتعرض لاختناق حقيقي نتيجة المنافسة الصينية. إذ أن المصانع الصينية لا تكتفي بالتكنولوجيا الحديثة وكثافة الإنتاج، بل تعتمد على خامات زهيدة ومهارات تسويقية عالية، مقابل ضعف تقني ومالي تعانيه المصانع المصرية.
وتُظهر الأرقام أن الاستثمار الصيني في قطاع المنسوجات وحده بلغ مليارًا ونصف مليار دولار، في وقت تُصدّر فيه الصين الأثاث المصنّع من الأخشاب المصرية التي تُجمّع وتُرسل إلى بكين لتعود إلى السوق المصري كمُنتج نهائي.
تكرار النموذج الأمريكي
ما فعلته الصين مع الأسواق الأمريكية في العقود الماضية—حين أغرقتها بمنتجات رخيصة دمرت الصناعات الأمريكية الصغيرة والمتوسطة—يبدو أنه يُعاد تنفيذه في مصر، ولكن بإطار أكثر هدوءًا واستثمارًا ناعمًا.
فالصين تدخل بقوة إلى القطاعات الحيوية، وتُنشئ مصانع ضخمة، وتُهيمن على سلاسل التوريد، ما يجعل خروجها من السوق المصري لاحقًا أمرًا مستحيلًا، ويمنحها تأثيرًا غير مباشر على القرار الاقتصادي المحلي.
القلق الأمريكي.. ومخاوف السيادة
تنامي النفوذ الصيني في مصر، خاصة في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، لا يمر بهدوء في واشنطن. فهناك تسريبات وتقارير صحفية أمريكية تشير إلى انزعاج متزايد من تحول مصر إلى قاعدة تصنيع وتصدير صينية تطل على إفريقيا وأوروبا، وتنافس المصالح الغربية في ممرات الملاحة.
فرصة قد لا تتكرر
وسط هذه التحديات، يرى خبراء اقتصاديون أن الفرصة لا تزال قائمة لتوظيف الوجود الصيني في خدمة الاقتصاد المصري، شريطة أن تكون هناك سياسات واضحة تحمي الصناعة الوطنية، ومنها:
إلزام الشركات الصينية بتشغيل 70% من العمالة المصرية
فرض نسبة تصنيع محلي لا تقل عن 50% على المشاريع الكبرى
وقف تصدير المواد الخام دون تصنيعها في الداخل
دعم عاجل للصناعة المصرية عبر تمويل حكومي ومبادرات تحديث تكنولوجي
هل تفقد مصر استقلالها الصناعي؟
إذا استمر التوسع الصيني بهذا الشكل، فإن مصر قد تجد نفسها في وضع يشبه التبعية الاقتصادية، حيث تعتمد صناعات أساسية على استثمارات أجنبية لا تخضع لرقابة كافية، بينما يتم تهميش المنتج المحلي.
وفي ظل تراجع الاستهلاك المحلي، وارتفاع التضخم (وصل إلى 23.2% في مارس 2025)، قد تتحول السوق المصرية إلى منصة تجميع صينيّة تُستغل دون تنمية حقيقية للقدرات الوطنية.
المصدر: عربي بوست + مواقع