البابور الموقع العربي

الأخلاق في الإسلام.. الدين المعاملة

756

البابور – خاص
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعود بالله من شرور أنفينا، . ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرة .
أما بعد :
فقد قال رسول الله : «إنما بعثت لأتمم صالح “مكارم” الأخلاق”.

وفعلا تمت بإذن الله تعالى، إذ ربى جيلا فاق الأمم في كل مجال، وغير ملامح التاريخ، وجعل ذلك التاريخ يستدير ليسطر آیات الحق ومسيرة النور الذي بدد الظلام والظلمات، وجاء فياضاً بالخير صداعا بالحق طافحا بالخلق الكريم، وقد أتی مناسبا لكل أمة، مجتازا حدود الزمان والمكان ؛ ليكون حلا لكل ظرف ولأي ظرف مهما كان، وأيا كان، وقد سعدت أمتنا بهذا النور العظيم الذي منحها الهوية والكرامة .
وإن الناظر في هذا الدين العظيم ليعرف حق المعرفة أنه وجد للبشرية جمعاء، ولا حياة كريمة لها بدونه، ونستغرب كيف يخيا الآخرون الذين خرموا أنفسهم الهداية تعصبا وضلالا وجهلا؟! ولكن الجواب يأتينا سريعا من كتاب الله الكريم: من عمل صالحا فلنفسه، ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد [ فصلت: 46]
ومن أهم ما يميز الإنسان المسلم صورة تعاملة مع الله سبحانه، ومع إخوانه في الدين، ومع غيرهم، فإن أحسن، أرضى ربه ورضي عن نفسه، وأعطى صورة رائعة للآخرين عن هذا الدين، وعن معتقديه، فكأنه دعا بلسان الحال وليس بلسان المقال إلى دينه دعوة أبلغ وأوصل إلى القلب والعقل معة.

وقد بدا انعكاس الصور السلوكية الرائعة في تأثيرها في انتشار هذا الدين في بعض المناطق التي لم يصلها الفتح الإسلامي؛ إذ دخل في هذا الدين الحنيف شعوب بكاملها لما رأوا القدوة الحسنة مرتسمة خلقا حميدا ينير طريقه لنفسه بمصباحه، فيرى الآخرون ذلك النور، ویرون به، وبناء على ذلك الإقبال سريعا دون دافع سوى القدوة الحسنة، فرب صفة واحدة مما يأمر به الدين تترجَم حية على يد مسلم صالح، يكون لها أثر لا يمكن مقارنة نتائج الوعظ المباشر؛ لأن النفوس قد تنفر من الكلام الذي تتصور أن للناطق به مصلحة، وأحسن تلك الصفات التمسك بالأخلاق الحميدة التي هي أول ما يرى من الإنسان المسلم، ومن خلالها يحكم له أو عليه من الله، ثم من قبل الناس .

ونظرا؛ لما لهذا الأمر من أهمية، وحرصا مني على الإسهام في التأكيد على الالتزام بالأخلاق لكل إنسان مسلم، وغيرة على أخلاق الأمة في هذه الأيام التي لوت أعناق الأخلاق الإسلامية ، أو مسختها أو قتلتها، واتبعت صرعات من شرق و غرب، متخذة منهما القدوة، وتحت تأثير النجاحات المادية التي حققتها الأمم غير الإسلامية، والهجمات المحمومة التي ما انفك الأعداء يوالونها في كل حين، قاصدين إطفاء هذا النور، وتدجين المسلمين، علما بأن كل ما يقترفونه بحق هذه الأمة يجري في خط مدروس، تضافرت على إنجاحه أحقاد اليهود، والصليبية، وغيرهم، وبعد أن عجزوا عن تدمير الإسلام وأهله في ميادين الحروب، حولوا الأمر إلى حرب أخلاقية تجرد شبابنا من كل القيم، ولن يفلحوا ما دام في هذه الأمة رجال مخلصون، ينافحون عن هذا الدين في كل مجال .

ويا للأسف فإننا نجد في هذا الزمان المتأخر أقواما ادعوا التمكن ورجاحة العقل، غير أنهم إلى الشهوات والشبهات يركضون، ومع النفاق وسوء الأخلاق يجرون .
وهم بذلك يخالفون حتى مسمى العقل، فما سمي العقل عقلا إلا أنه يمنع الإنسان من الإقدام على شهواته إذا بحث، ويلزمه صراط الله المستقيم، والعاقل من عقل عن الله أمره ونهيه، وتمسك بشرعه . قال العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله :
“وحياة العقل: هي صحة الإدراك، وقوة الفهم وجودته، وتحقق الانتفاع بالشيء أو التضرر به، وهو نور يخص الله به بشاء من خلقه ، وبحسب تفاوت الناس في قوة ذلك النور وضعفه، ووجوده وعدمه، يقع تفاوت أذهانهم وأفهامهم وإدراکاتهم، ونسبته إلى القلب كنسبة النور الباصر إلى العين ).

قال أبو حاتم
“نبغ أقوام يدعون التمكن من العقل باستعمال ضد ما يوجب العقل . من شهوات صدورهم، وترك ما يوجبه نفس العقل بهجمات قلوبهم، جعلوا أساس العقل الذي يعقدون عليه عند المعضلات: النفاق والمداهنة، وفروعه عند ورود النائبات حسن الباس والفصاحة، وزعَموا أن من أخكم هذه الأشياء الأربع فهو العاقل !”

من هو العاقل؟
هو الذي يحبس نفسه ويژدها عن هواها، وسمي العقل عقلا لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك، أي يحبسه ، وقيل: العقل هو التمييز الذي به يتميز الإنسان من سائر الحيوان .

وقال ابن الأنباري : رجل عاقل، وهو الجامع لأمره ورأيه .
وقال صاحب المحكم كما في تهذيب “الأسماء واللغات”: العقل ضد الحمق، والجمع عقول، عقل يعقل عقالا، وعقالا فهو عاقل من قوم عقلاء.

محل العقل:
قيل العقل جوهر روحاني، خلقه الله تعالی متعلقة ببدن الإنسان، وقيل :جوهر مجرد عن المادة يتعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف، وقيل: محله الدماغ في الرأس، وقيل: محله القلب.

والتحقيق أن العقل له تعلق فيهما معا، حيث يكون الفكر والنظر في الدماغ، ومبدأ الإرادة والقصد في القلب؛ ولهذا يمكن أن يقال : “القلب. موطن الهداية، والدماغ موطن الفكر”.

نعمة العقل
والعقل نعمة عظيمة من أجل النعم، ومن خلاله يستطيع المرء أن يظرك ما حوله، وما الذي ينبغي عليه أن يأتيه أو تجتنبه، وبه يعرف المرء نفسه، ويعرف ربه، ويبصر طريقه ويبني علاقات وطيدة، ويعقد صلات حميمة مع من حوله، والعاقل من اتعظ بغيره، والأحمق أو الجاهل من اتعظ به غيره، والعاقل من يكون حاضر العقل والقلب، فلا طيش ولا ضلال
والآيات القرآنية في بيان نعمة من يستخدمون عقولهم ويستدلون بها على الحق كثيرة، ومنها قوله تعالى: (إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون)  [الرعد: 4]
وقوله سبحانه : (كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون) [ الروم: ۲۸ ] وقوله تعالى : ( وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون)  [العنکبوت : 43]

وأفاض المولى سبحانه في مدح من انتفع بعقله بالمواعظ والعبر والآيات، فقال سبحانه : يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب) [ البقرة: 269[

وقال سبحانه: (قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فأتقوا الله يا اولي الألباب لعلكم تفلحون » [ المائدة: 100[
وذم الله سبحانه قوما عطلوا عقولهم، وفي ذلك آيات كثيرة، ومنها قوله عز وجل: (ولقد اضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون) [ يس: 62[
وقال عز وجل: (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا من أصحاب السعير) [الملك:10[
وقال سبحانه: (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون الأنفال) [ الانفال:22 ]

أما الأحاديث النبوية عموما، فكلها يسلم لها العقل السليم الذي تربی على الإسلام، وينقاد لها، كيف لا وهي العافية للناس ، والسعادة في الدارين؟! ولا ينقاد للسنة إلا عاقل، ومن نبذ السنة النبوية فإنه أحمق لا عقل له .
قال أبو حاتم: وأفضل ما وهب الله لعباده العقل، ولقد أحسن الذي يقول :

وأفضل قسم الله للمرء عقله
فليس من الخيرات شيء قاربه

إذا أكمل الرحمن للمرء عقله
فقد كملت أخلاقه ومآربه

يعيش الفتى في الناس بالعقل إنه
وإن كان محظورا عليه مكاسبه

قيل لابن المبارك: “ما خير ما أعطي الرجل؟ فقال: غريزة عقل، قيل: فإن لم يكن؟ قال أدب حسن، قيل: فإن لم يكن ؟ قال : صمت طويل، قيل : فإن لم يكن؟ قال: موت عاجل”.
قال أبو حاتم: فالواجب على العاقل : أن يكون بما أحيا عقله من الحكمة أكلف (أي أشد تعلقا وانشغالا) منه بما أحيا جسده من القوت؛ لأن قوت الأجساد المطاعم، وقوت العقل الحكم، فكما أن الأجساد تموت عند فقد الطعام والشراب، وكذلك العقول إذا فقدت قوتها من الحكمة ماتت.
قال الماوردي: “واعلم أن بالعقل تعرف حقائق الأمور..، وبه يمتاز الإنسان عن سائر الحيوان، فإذا تم في الإنسان سمي عاقلا، وخرج به إلى حد الكمال.

قال بعضهم:

إذ تم عقل المرء تمت أموژه
وتمت أياديه وتم بناؤه

فإن لم یکن عقل تبين نفصه
ولو كان ذا مال كثيرا عطاؤه

ثمرة العقل

قال العلامة ابن القيم رحمه الله :
ثمرة العقل الذي به عرف الله سبحانه وتعالى، وأسماؤه، وصفات  كماله، ونعوت جلاله، وبه أمن المؤمنون بكتبه ورسله، ولقائه وملائكته، وبه عرفت آیات ربوبيته وأدلة وحدانيته، ومعجزات رسله، وبه امتثلت أوامره، واجتنبت نواهيه، وهو الذي يلمح العواقب فراقبها وعمل بمقتی مصالحها، وقاوم الهوى، فرد جيشه مفلولا، وساعد الصبر حتی ظفر به بعد أن كان بسهامه مقتولا ، وحث على الفضائل، ونهى عن الرذائل، وفتق المعاني ، وأدرك الغوامض، وشد أزر العزم، فاستوى على سوقه، وقوى أزر الحزم حتى حظي من الله بتوفيقه، فاستجلب ما يزين ونفي ما يشين، فإذا ترك وسلطانه ؟ أسر جنود الهوى، فحصرها في حبس من ” من ترك لله شيئا عوضه الله خيرا منه”، ونهض بصاحبه إلى منازل الملوك إذا صير الهوى الملك بمنزلة العبد المملوك، فهي شجرة عرقها الفكر في العواقب، وساقها الصير، وأغصانها العلم، وورقها حسن الخلق، وثمرها الحكمة، ومادتها توفيق من أزمة الأمور بيديه، وابتداؤها منه، وانتهاؤها إليه.

وإذا كان هذا وصفه، فقبيح أن يدال عليه عدوه، فيعزله عن مملكته، ويحطه عن رتبته، ويستنزله عن درجته، فيصبح أسيرا بعد أن كان أميرا، ومحكوما بعد أن كان حاكما، وتابعا بعد أن كان متبوعا، ومن صبر على حكمه أرتعه في رياض الأماني والمنى، ومن خرج عن حكمه؛ أورده  حياض الهلاك والردى.
قال علي بن أبي طالب: ” لقد سبق إلى جنات عدن أقوام ما كانوا بأكثر الناس صلاة، ولا صياما، ولا حجا، ولا اعتمارة، لكنهم عقلوا عن الله مواعظه، فوجلت منه قلوبهم، واطمأنت إليه نفوسهم، وخشعت له جوارحهم، فاقوا الناس بطيب المنزلة، وعلو الدرجة عند الناس في الدنيا ، وعند الله في الآخرة .
وقال عمر بن الخطاب: ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشر، ولكنه الذي يعرف خير الشرین” . وقالت عائشة، رضي الله عنها: “قد أفلح من جعل الله له عقلا”.
قلت: هذه ثمرة العقل، وفضل العقلاء، أما من طالع أحوال الجهلة يرى عجبا لسوء أخلاقهم مع ما عندهم من نعمة العقل.
قال بعض الحكماء: الأدب صورة العقل، فصور عقلك كيف شئت.
وقال آخر: العقل بلا أدب كالشجر العاقر، ومع الأدب كالشجر المثمر .
وقال بعض البلغاء: الفضل بالعقل والأدب، لا بالأصل والحسب؛ لأن من ساد أدبه ضاع نسبه، ومن قل عقله، ضل أصله .
وقال بعض العلماء الأدب وسيلة إلى كل فضيلة، وذريعة إلى كل شريعة .
“والواجب على العاقل : أن يكون حسن السمت (أي الهيئة)، طويل الصمت، فإن ذلك من أخلاق الأنبياء، كما أن سوء السمت وترك الضمت من شيم الأشقياء”.
قلت : فكل من منعه عقله عما لا ينبغي، فهو من جمله العقلاء، ثم بأي شيء يفخر المرء إذا كانت أخلاقه سيئة، وطباعه قبيحة؟! وعلى ماذا يتكبر، ويم يفرح إذا كان مسلوب الفضيلة؟!
“فالعاقل لا يغتبط بصفة يفوقه فيها سبع أو بهيمة أو جماد، وإنما يغتبط بتقدمه الفضيلة التي أبانه الله – تعالى – بها عن الضياع والبهائم والجمادات، وهي التمييز الذي يشارك فيه الملائكة، فمن سر بشجاعته التي يضعها في غير حقها لله عز وجل ، فليعلم أن النمر أجرأ منه، وأن الأسد والذئب والفيل أشجع منه، ومن سر بقوة جسمه، فليعلم أن البغل والثور والفيل أقوى منه جسما، ومن سر بحمله الأثقال، فليعلم أن الحمار أحمل منه، ومن سر بسرعة عذوا منه، فليعلم أن الكلب والأرنب أسرع عدوة منه، ومن سر بحسن صوته فليعلم أن كثيرا من الطير أحسن صوتا منه، وأن أصوات المزامير ألذ وأطرب من صوته، فأي فخر وأي سرور فيما تكون فيه هذه البهائم متقدمة له؟! لكن من قوي تمييزه، واتسع علمه، وحسن عمله، فليغتبط بذلك، فإنه لا يتقدمه في هذه الوجوه إلا الملائكة، وخيار الناس.

وأهل السنة والجماعة هم الذين أنزلوا العقل منزلته اللائقة به، فهم وسط بین طرفین
الطرف الأول : من جعل العقل أصلا كليا أوليا، مستقلا بنفسه عن الشرع، مستغنيا عنه
الطرف الثاني : من أعرض عن العقل، وذمه وعابه ، وقدح في الدلائل العقلية مطلقا
والوسط في ذلك – وهم أهل السنة والجماعة – قالوا:

  1. إن العقل شرط في معرفة العلوم، وكمال الأعمال وصلاحها؛ لهذا كانت سلامة العقل شرطة في التكليف، فالأحوال الحاصلة مع عدم العقل ناقصة، والأقوال المخالفة للعقل باطلة، وتدبر القرآن يكون بالعقول ؛ قال تعالی: “أفلا يتدبرون القرآن” [النساء: 82 ]، فالعقل هو المدرك لحجة الله على خلقه .
  2.  إن العقل لا يستقيم بنفسه، بل هو محتاج للشر
  3. – إن العقل مصدق للشرع في كل ما أخبر ب
  4. إن الشرع دل على الأدلة العقلية، وبينها، ونبه عليها.

قال الإمام الشاطبي:
إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل الشرعية؛ فعلی شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعا، ويتأخر العقل فيكون تابعا؛ فلا يسرح العقل في مجال النظر إلا بقدر ما يسرحه النقل”.

قلت :
وهذا کتاب جمعت فيه من الأخلاق والآداب ما يحسن للعاقل فعله ، وما يقبح به إتيانه من الخصال المذمومة، وسميته (موسوعة الأخلاق).

                                                        مقدمة كتاب “موسوعة الإسلام”
                                                      خالد بن جمعة بن عثمان الخراز

الكويت – الفيحاء

                                     

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر الأخبار