البابور الموقع العربي

مالك التريكي يكتب: تونس.. المحرومون من الحق في الماء

586

 مالك التريكي 

ما أكثر ما ننسى، أو نتناسى، أنه لم يعد للإنسانية ما يكفيها من الماء وأن معظمنا في بلاد العرب قد صار مهددا بالعطش. إذ إن تزايد الهدر وسوء التدبير والتوزيع بلغ مدى سيؤدي، في غضون عشر سنين، إلى تفاقم العجز المائي العالمي (الهوة بين الحاجة والموارد) إلى حدود 40 بالمائة.

وليس أدل على أهمية الماء للإنسان وعلى وعيه بقيمته وأسبقيته على بقية شروط الحياة من أنه قد سخر جهودا علمية وموارد مالية كبرى لطلب الماء ولو في المريخ. فقد أتت الصور التي أرسلتها المركبة الفضائية “برسفيرنس” أخيرا بمزيد من الأدلة على أن كوكب المريخ كان غنيا بالمياه (قبل 3 مليارات و800 مليون سنة). إلا أن المفارقة الأليمة هي أن هذه الإنسانية الحريصة على بذل كل ما أمكن رجاء اكتشاف موارد مائية في الكواكب القصيّة هي الإنسانية ذاتها التي تبدّد المياه أو تلوثها أو تسيء استخدامها على كوكبها الأرضي الصغير. فقد تبين من التقرير السنوي الذي أصدرته الأمم المتحدة في 22 من هذا الشهر، بمناسبة اليوم العالمي للمياه، أن الإنسانية لا تفعل كل سنة سوى تعجيل وتيرة السقوط في كابوس الكارثة المائية.
ذلك أن مليارين ونصفا (ثلث الإنسانية) محرومون من الماء الصالح للشرب وأنهم يلقون أشد العنت في الحصول عليه، حيث يضطر حوالي 230 مليونا (معظمهم من النساء والصبايا) لقضاء أكثر من نصف ساعة يوميا في جلب الماء من أقرب بئر أو حنفية عمومية. وتقدّر اليونيسيف أن هذا يعني أن جلب الماء يقضم من حياة النساء 200 مليون ساعة في اليوم، أي ما مجموعه 22800 سنة! أما منظمة الصحة العالمية فإنها تسجل أن 829 ألف نسمة (منهم 300 ألف طفل دون الخامسة) يهلكون كل عام جراء الإسهال الناجم عن نقص مياه الشرب المأمونة وانعدام مرافق التطهير وخدمات الصرف الصحي.

ويبدو، ظاهرا، أن الإرشادات الصحية للتوقّي من جائحة كورونا يسيرة التطبيق عند جميع البشر، إلا أن الواقع البائس أن أكثر من 3 مليارات نسمة يعيشون أو يتعلمون أو يعملون في أماكن لا إمكان فيها لغسل اليدين. بل إن الماء والصابون منعدمان في 40 بالمائة من مشافي البلدان الفقيرة ومستوصفاتها.

إن تزايد الهدر وسوء التدبير والتوزيع بلغ مدى سيؤدي، في غضون عشر سنين، إلى تفاقم العجز المائي العالمي (الهوة بين الحاجة والموارد) إلى حدود 40 بالمائة

ويعرّف العجز المائي بتدنّي موارد الفرد عن 1700 متر مكعب سنويا. إلا أن الوضع في بلداننا أخطر لأن ثلاثة أرباع العرب يعيشون تحت خط شحة المياه (أقل من 1000 متر مكعب) بينما يعيش نصفهم (خصوصا في مصر وليبيا) في ما هو أسوأ: أقل من 500 متر مكعب. لكن الخطر لا يحدق بالبلدان النامية فقط. بل إن مناطق مثل الغرب الأمريكي وجنوب إسبانيا وإيطاليا وفرنسا وبعض أقاليم الصين سوف تواجه الخطر ذاته في غضون عشرين سنة. وليس العجز المائي مشكلة يسهل التكيّف معها، بل إنه من الأزمات الجسام التي قد تنجم عنها نتائج غير قابلة للحسبان.

ومن أمثلة ذلك ما ذكره الخبير ريتشارد أوكونور من أن موجة القحط والحرائق التي اجتاحت سهوب روسيا عام 2010 قد أدت إلى انخفاض شديد في صادرات القمح، فكانت النتيجة أن سعر الخبز تضاعف ليفضي آخر المطاف، بالتضافر مع عوامل أخرى، إلى اندلاع الثورات الشعبية العربية.
لكن بدل أن يتعزز الأمن المائي في تونس بعد الثورة الشعبية فإنه قد تزعزع، مثلما تبين دراسة ميدانية أجرتها الباحثتان الجامعيتان نعيمة الفقيه ومنال البكري ونشرها هذا الأسبوع المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية عن أزمة المياه في منطقة القيروان: «بدأت منذ الثورة لتزيد حدتها في الفترة الأخيرة بشكل لم يعد الأهالي قادرين معه على التحمل. ذلك أن هؤلاء إنما يعيشون، على غرار سكان مناطق أخرى في تونس، أزمة عطش راهنة تهدد وضعهم الصحي والحياتي وتجعل القيروان عرضة لمزيد من أحداث العنف والشغب والحركات الاحتجاجية التي تهدد بدورها أمن تونس واستقرارها».
وقد وجه المنتدى، ممثلا برئيسه عبد الرحمن الهذيلي، رسالة إلى بدرو أروخو أغودو، مقرر الأمم المتحدة المعني بحق الإنسان في الحصول على مياه الشرب المأمونة وخدمات الصرف الصحي، قال فيها: رغم أن الحق في الماء وفي خدمات صرف صحية هو من أساسيات حقوق الإنسان، فإن «ملايين الأشخاص في تونس محرومون من هذا الحق، خاصة منهم ساكنو المناطق الريفية والجهات المفقرة من البلاد وعديد الفئات الهشة». فقد عاين المنتدى خلال زياراته الميدانية مظالم مختلفة وتداعيات مؤسفة لغياب هذا الحق لم تواجهها الدولة إلا بالصمت والتجاهل والملاحقات الأمنية والقضائية. ودعا المنتدى الخبير الأممي إلى «زيارتنا في تونس من أجل الاطلاع على ما سلف ذكره من إشكاليات (..) بالإضافة إلى التواصل عن قرب مع شبكة الفاعلين (..) ودعم مجهوداتنا من أجل تكريس الحق في الماء وخدمات الصرف الصحي للفئات الأكثر حرمانا وتهميشا».

كاتب تونسي

القدس العربي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر الأخبار