البابور الموقع العربي

ومضة تاريخية تنتظر ما لم يأت بعد !

364

أحمد حسن الشرقاوي

بعد انهيار الكتلة الشرقية فى تسعينيات القرن الماضي، وتفكك ما كان يعرف بالاتحاد السوفييتي، أصبحت المنطقة العربية والاسلامية (بلدان المشرق) بمثابة المعقل الأخير من معاقل الاستبداد والديكتاتورية فى العالم. وقد أدت الثورة التكنولوجية التى رافقت ثورات الربيع العربي فى مطلع العام 2011 الى خلق حالة من الوعي غير المسبوق بأهمية الحرية عند شعوب تلك المنطقة.

ورغم انتصار الثورات المضادة فى العديد من بلدان الربيع العربي مثل مصر، واندلاع الحروب الأهلية والاضطرابات فى بلدان أخري مثل سوريا وليبيا واليمن، غير ان انتفاضات الشعوب ظلت متجددة فى السودان والجزائر ومصر نفسها. تحققت أشياء وغابت أخرى، لكن الرابط الأساسي هو أن جذوة الوعي عند شعوب المشرق ظلت مستمرة. ولعل تلك هي نقطة البدء فى الدراسة التي كتبها أنتوني كوردسمان Anthony H. Cordesman  المولود فى غرة أغسطس من العام 1939 ( 82  عاما ) والذي يعد واحدا من أهم الخبراء الاستراتيجيين الأمريكيين فى شؤون منطقة الشرق الأوسط.

كوردسمان أستاذ كرسي (أرليه بورك) في الشؤون الاستراتيجية في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن.

عمل كمدير لمشروع تقييم شبكة الشرق الأوسط، وإدارة مبادرة الطاقة الاستراتيجية لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (سي إس آي إس) . وهو مؤلف مجموعة واسعة من الدراسات حول السياسة الأمنية الأمريكية وسياسة الطاقة وسياسة الشرق الأوسط ، كما عمل مستشارًا لوزارتي الخارجية والدفاع الأمريكيتين. وهو أستاذ سابق لدراسات الأمن القومي في جامعة جورج تاون وزميل مركز وودرو ولسون الدولي.

ومن خلال هذا التعريف الموجز تستطيع بكل سهولة أن تدرك أن للرجل خبرة واسعة وإضطلاع كبير بشؤون منطقتنا، وبالتالي فإنه يتعين أن نأخذ كلامه على محمل الجد، وأن نتوقف أمامه بالتأمل والتحليل والاستيعاب والنقد إذا استلزم الأمر.

كوردسمان هو صاحب تلك الدراسة المنشورة فى مجلة فورين آفيرز ( الشؤون الخارجية ) الأمريكية فى نوفمبر 2020 تحت عنوان :” الشرق الأوسط: من “الربيع العربي” إلى “محور الدول الفاشلة”، والذي قام على ترجمتها الزميل الدكتور محمد الصاوي، وطلب مني، مشكورا، كتابة المقدمة له..

والحقيقة، ان الربط فى العنوان بين الربيع العربي من ناحية، والدول الفاشلة من ناحية أخرى يجعلك تشعر لأول وهلة ان هناك انحيازا من المؤلف ضد الربيع العربي، بل قد يصل بك الأمر الى حد التوجس عند قراءة العنوان من أن الدراسة ككل تستهدف التحذير من موجات الربيع العربي التي قد تؤدي الى تحول الدول التي تندلع فيها تلك الموجات الثورية الى بلدان فاشلة، وبما يتماشى مع تحذير النظم الحاكمة بالمنطقة لشعوبها من مواجهة مصير سوريا والعراق وليبيا واليمن، إذا أقدمت على مواجهة أنظمتها الحاكمة بالحديد والنار أوالخروج عليها.

غير أن القراءة المتأنية للدراسة سوف تجعلك أمام مناقشة بحثية رصينة ليس هدفها فقط التحذير من المآلات بقدر ما هي رصد للسيناريوهات المحتملة والتي يمكن أن يتم تجنبها بسيناريوهات مضادة لها.

ربما تجد فى بعض جوانب الدراسة ميلا واضحا لوجهة النظر الغربية وتحديدا الأمريكية تجاه مآلات الأوضاع فى منطقتنا جراء انتفاضات شعبية تقودها جماهير عريضة بدون قيادات كاريزمية مما يجعل عمل مراكز الدراسات الاستراتيجية الأمريكية صعبا لا سهلا  أوميسورا من خلال دراسة تلك الشخصيات الكاريزمية والتحكم فيها بما يتفق مع المصالح الغربية. وهنا أيضا نقطة محورية مهمة.

غير أن تلك النقاط رغم أهميتها تستدعي فى الوقت نفسه تأمل الحقائق المتغيرة فى العالم حولنا، ومن بينها على سبيل المثال وليس الحصر أن وصول إدارة ديمقراطية برئاسة بايدن للبيت الأبيض الأمريكي واستلام السلطة اعتبارا من 20 يناير من العام 2021 الجاري، يمثل فرصة فريدة للشعوب وقوى التغيير فى بلدان المنطقة للعمل مع تلك الادارة من خلال منظور جديد يساهم فى تحقيق مجموعة من المكاسب السياسية المتعلقة بتوسيع نظاق الحريات العامة وحقوق الإنسان، وإضعاف قبضة الديكتاتوريات على تلك الشعوب.

وفي تقديري، فإن دراسة كوردسمان، تقدم أرضية جيدة لبدء حوار بين ممثلي ثورات الربيع العربي ومفكريه من ناحية، وخزان الفكر الاستراتيجي الأمريكي والغربي من ناحية أخري، باعتبار أن هذا ( التفاعل الفكري الإيجابي) هو وسيلة مثلي للوصول الى توافق أو حلول وسط بين الجانبين.

الغرب يريد الحفاظ على مصالحه الاستراتيجية فى منطقتنا، وشعوب المنطقة تريد الوصول الى الحرية وتطبيق نموذج الديمقراطية الغربية والتخلص من الاستبداد والديكتاتورية، وهما مساران غير متعارضين، بشرط أن يدرك الجانبان أن الحوار المفتوح وغير المشروط هو الذي ينتهي دائما بالنجاح، وتجربة الحوار بين الولايات المتحدة والقوى الأفغانية بما فيها حركة طالبان خير دليل.

واشنطن (بايدن) لا تريد، على ما أظن، أن تخوض حروبا مكلفة للغاية مثل تلك التي خاضتها فى أفغانستان لسنوات طويلة حتى تدرك بعض الأمور البديهية البسيطة عند شعوب منطقتنا، كما أن شعوب المشرق العربي والاسلامي ليست على استعداد لدخول حروب طويلة تمتد لعقود حتى تبرهن على جدارتها وأحقيتها فى نيل الحرية والتخلص من الديكتاتورية والاستبداد.

لعل تلك “اللحظة الفارقة” التي نعيشها حاليا بعد مرور عقد كامل على اندلاع ثورات الربيع العربي، ووصول إدارة ديمقراطية برئاسة جوزيف بايدن للبيت الأبيض، هي “الومضة التاريخية” التي تمثل فرصة وتحديا فى الوقت ذاته، ويتعين على الجميع أن ينتهزها قبل أن تنطفيء مجددا، ونظل جميعا ننتظر لسنوات طويلة مقبلة، حدوث ومضة جديدة، قد تأتي وقد لا تأتي أبدا.

أحمد حسن الشرقاوي

كاتب صحفي مصري

النائب السابق لمدير الوكالة الرسمية المصرية للأنباء (أ ش أ )

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر الأخبار