البابور الموقع العربي

خلف أبواب مراقد النجف صراع على الإسلام الشيعي اليومي داخل العراق

276

 محمد تركي الربيعو 

مع صحوة الشيعة في عام 2003، والتعبير هنا للمؤلف الإيراني الأمريكي ولي نصر، بدا أن الشرق الأوسط يشهد مرحلة صراعات طائفية جديدة، وهي صراعات سيراها نصر شبيهة بالانشقاق البروتستانتي ـ الكاثوليكي في المسيحية الغربية، وبغض النظر حول مدى دقة هذه المقارنة، فقد ساهم هذا الوصف لاحقا في رسم صورة عن الشيعة والسنة في المنطقة، بوصفهم كتلا ثابتة وجامدة.
ومع مرور الأيام كان المشهد الطائفي في العراق يساهم في تثبيت صورة نمطية عن الشيعة العراقيين ترسمهم من ناحية باعتبارهم كتلة واحدة، ومن ناحية ثانية أصحاب هوى إيراني يخضعون لأوامر الفقيه في إيران. ورغم أنّ نصر حاول دحض هذه الرؤية من خلال الحديث عن شيعةٍ تركمان وعربٍ، وأيضاً عن شيعة ريفيين وشيعة مدن، مع ذلك ستبقى الصورة النمطية، حول وجود لون شيعي واحد ميال لإيران، هي الحاكمة، وبالأخص لمن يعيش خارج العراق، كما سيبقى الباحث العربي محتارا أحيانا حيال تفسير مواقف القائد الشيعي مقتدى الصدر، فهو تارة يظهر بوصفه عروبيا، وأحيانا عديدة يبدو طائفيا في ممارساته وخطاباته ومسلحيه.
ولعل من الكتب الجديدة التي تحاول فك هذا الغموض عن الشيعة العراقيين، الكتاب الذي أصدرته الباحثة في جامعة كونيتيكت الأمريكية كارولين صايغ بالإنكليزية بعنوان «آيات الله الوطنيون: القومية في زمن ما بعد صدام» في عام 2018 وقد تُرجم حديثا للعربية عن مركز الرافدين للحوار بعنوان «المرجعية الدينية: الموقف الوطني في العراق بعد 2003» ترجمة نصر محمد علي وحسن ناظم. الجيد في هذا الكتاب، أنّ المؤلفة تكشف عن وجود جماعات، وليس جماعة شيعية واحدة، كما تكشف أيضا عن خلافات يومية بين قادة هذه الجماعات على الحكم، ودور الإسلام الشيعي في إدارة ملفات البلاد، وأيضا على صعيد رؤية مستقبل العراق. وربما ما يميز هذا الكتاب أيضا، أنّه يقدم صورة جديدة عن آية الله السيستاني، إذ غالبا ما جرى تصويره على أنّه يتمتع بصفات شبه ميكافيلية، ويعمل خلف الكواليس في سبيل بناء جمهورية النجف الإسلامية، بينما تبين صايغ من خلال متابعة دقيقة لخطابات ومواقف هذا الرجل، أنّ هذه القراءة تبدو مستعجلة، وأنها وليدة الشكوك التي تشكّلت بعد عام 1979، عندما اختطف رجال الدين الشيعة الدولة، في حين نكتشف أنّ السيستاني بقي يصر على تأدية دوره في الشبكات غير الرسمية.

شيعة أم شيع

في سياق تفسيره لما عاشته العراق بعد عام 2003 من صراعات طائفية، كان كنعان مكية قد وجد في روايته «الفتنة» أنّ السبب في ذلك يعود لزعماء الشيعة، الذين لم يتصرفوا بشهامة كما فعل مارتن لوثر، ونيلسون مانديلا أو غاندي، إذ لم يتمكنوا من التخلص من «شرنقة ثقافة الضحية» وهنا ترى صايغ أنّ ما وقع فيه مكية، أنّه لم يعرفنا بداية على طبيعة هؤلاء الشيعة، كما أنه بقي ينظر للعراق من منظور طائفي، ولذلك فهي ترى أنه من الضروري وضع خريطة أخرى عن الشيعة في العراق، لفهم أي الأطراف ساهمت فعلا في تفاقم العنف الطائفي في البلاد.

ترى صايغ أنّه بعد غزو عام 2003 كان صناع السياسة والصحافيون حريصين على رؤية الكيفية التي سيتفاعل بها الإسلام الشيعي مع الدولة العراقية الجديدة، وقد لاحظ فريديك فولبي وبرايان تيرنر، أنّ هذه الأسئلة شغلت بال علماء الإسلام والعلوم الاجتماعية على مدى عقود. ولفهم هذه اللحظة في التأريخ، يؤكد كل منهم أننا في حقبة ما بعد نظام دوركهايم، بمعنى أنّ الدين أصبح مسألة تعني الفرد، وأنّ المؤسسة الدينية التقليدية في تراجع، وللوهلة الأولى يبدو أنّ هذا الاستنتاج دقيق في العراق، ففي خضم المناخ الجديد، تشكّلت جماعات إسلامية شيعية جديدة، بعضها ذات توجهات راديكالية، ومن أهم هذه الحركات تلك التي شكّلها مقتدى الصدر، فقد كان في الثلاثينيات من عمره في أعقاب الغزو مباشرة، وكانت أمامه سنوات ليصل إلى مرتبة آية الله، ولذلك بدا في تلك اللحظة يمتلك رؤية بديلة للعراق، لا تتضمن أن يكون آيات الله قادة، وفي مناخ ما بعد صدام أخذ يقدم تفسيرا خارج المؤسسة الدينية للإسلام، مثلما فعل شريعتي وجلال آل أحمد في إيران قبل الثورة، وذلك على صعيد إعادة صياغة النشاط الديني خارج إطار المدارس الدينية الشيعية وبنيتها التراتبية، وقد تمكّن الصدر من استقطاب آلاف الأتباع في شوارع بغداد الفقيرة، وشكّل جيش المهدي وأنشأ المحاكم والسجون، وكانت تلك الخطوات تتوافق مع رؤيته لتشييد دولة إسلامية، لكن هذا الواقع لم يصمد طويلا، فقد تمكن رجال الدين من صدّ هذا الصعود، عبر التأكيد على ضرورة احترام البنية التراتبية، كما أنّ تصرفات الصدر أدّت إلى تنفير الشيعة العاديين، ولاسيما أصحاب الأملاك، الذين رفضوا الفتوى التي تسمح بالنهب، أو تحويل النجف إلى منطقة حرب، وأدى هذا الأمر إلى اكتشاف الصدر أنّ احترام آيات الله والتراتبية التقليدية يعني النجاح في العالم الشيعي، لذا قرّر الصدر أنّ نهجه السياسي يتطلّب أن يحسّن من مؤهلاته الدينية، فذهب إلى إيران عام 2008 للدراسة ليصبح آية الله، لكن هذه التراجع لم يكن يعني أنّ الشاب سيبقى منعزلا، أو منكفئا، وإنما سيعيد الكرة مرة تلو الأخرى، خاصة عندما يغيب السيستاني عن إعطاء رأيه في موقف أو حدث ما.
ومن هنا ترى المؤلفة أنّ تفسيرات تيرنر وغيره لم تتمكن من الصمود كثيراً في عراق ما بعد 2003، فقد بقي للمؤسسة الدينية التقليدية دور واسع في الحياة العراقية، وهو ما سيتعزز أيضا مع انهيار الدولة العراقية، لأن الدولة عندما تلجأ إلى القمع والإقصاء، وتفشل في تلبية احتياجات الناس، يلجأ الناس إلى المجال غير الرسمي، وهذا هو الفراغ الذي تمكّن السيستاني والصدر من ملئه. وتبين صايغ أنّ بيئة ما بعد 2003 تظهر أنّ آيات الله كانوا على دراية كاملة باحتمال تراجع دورهم، فانخرطوا بعملية صارمة لاكتشاف الذات، وقاموا بتحديث مؤسستهم مراعاة لاحتياجات هذا الجمهور على أمل أن يتمكنوا من الاحتفاظ باتباعهم.

ماذا عن السيستاني؟ هل هو خميني العراق؟

تتابع صايغ قراءتها لمواقف حراس التشيع في العراق من الأوضاع فيها بعد 2003، وهنا ترى أن السيستاني، خلافا للأحزاب الشيعية المقبلة من الخارج بعيد الغزو، فضّل طرح سلسلة من المواقف بشأن سيادة القانون، وعدم شرعية الفصائل المسلحة والنهب، ووجوب احترام الحكومة، وأجاب عن عشرات الأسئلة المتعلقة بخرق القوانين. والأهم من ذلك، إصراره على إجراء انتخابات مباشرة بدلا من التعيين، كما بدا مقتنعا بفكرة أنّ شكل الحكم في العراق يحدده الشعب العراقي، وأنّ المرجعية لا تمارس دورا في السلطة أو الحكم، ورغم أنه لم يكن سياسيا متمرسا، لكن كان لديه حدس سياسي لفهم الآثار العميقة للوثائق والهياكل التأسيسية، التي كان الأمريكيون يصيغونها مع بعض العراقيين القادمين من الخارج، وهذا ما ظهر من خلال البنية الطائفية لمجلس الحكم الانتقالي، وقانون الإدارة الانتقالية التي كانت لها تداعيات على الصعيد المحلي والإقليمي، وقد بدا السيستاني قلقاً من قدرة اللاعبين السياسيين على صياغة النتائج السياسية لصالحهم، بغض النظر عن الإرادة الشعبية في العراق.

وما يلفت النظر هنا هي قضية الدين، ذلك أنّ مكانة الإسلام في الدستور والدولة لم تحتل مكانة مهمة في خطاب السيستاني، فهو نادرا ما ركز في فتاواه على الإسلام، بينما كانت الجماعات الشيعية من خارج المؤسسة الدينية ذات التوجه الأكثر محافظة، مثل المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، هي التي تريد لغة خاصة بشأن مكانة الإسلام في الدولة. وفي سياق تفسيرها لموقف السيستاني من السياسة ونموذج ولاية الفقيه، ترى المؤلفة أنّ موقفه المنافي لولاية الفقيه، لم ينجم عن موقف فقهي فحسب، وإنما نجم عن واقع عاشه هذا الرجل، فقد كان شاهدا كغيره من العراقيين، وأبناء المنطقة على حكم ثيوقراطي شيعي في إيران حكم لعشرات السنين، ولكنه بدا فاشلاً، من هنا فضّل الالتزام بالتقليد الذي يقوم بمقتضاه رجال الدين بتوجيه المجتمع المسلم، مع ضمان عقد اجتماعي بين الحاكم والمحكوم، من خلال الترويج لمثل الإسلام، كما أنه بقي في فتاواه يتعامل مع الإسلام بوصفه شكلا حديثا وشرعيا من أشكال التعبير، الذي يمكن أن يؤدي دورا إيجابيا في المشهد السياسي للدولة الحديثة. لقد اختار أن يكون مرشداً فحسب، من أجل تفادي النموذج الإيراني في الحكومة (ولي الفقيه هو الحاكم).
وفي المقابل، تكشف صايغ، أنّ أعضاء الأحزاب الإسلامية القادمين من الخارج، كانوا يتبنون موقفا أكثر راديكالية حيال دور الإسلام الشيعي في الدولة، وأيضا حيال المكونات الأخرى، وهذا ما سيدفعهم، من خلال المالكي، إلى أخذ إجراءات قاسية ساهمت في تهميش السنة، وتفاقم الوضع الطائفي بالعراق، ولذلك نلاحظ أنّ خطاب جماعات الإسلام الشيعي السياسي، خلافاً لخطاب آيات الله، هو الذي ساهم فعليا في تفاقم الأوضاع الطائفية، لكن هذا لا ينفي أيضا دور الأمريكيين، الذين كان لهم التأثير الأكبر، من خلال فرض إجراءات طائفية على مستوى الحكم.
وفي سياق تحليلها للمعارك الطائفية، ودور آيات الله، تؤكد الباحثة، أنه رغم مكانة السيستاني الكبيرة، لكن هذه الرمزية والتأثير لم يكونا يعنيان أنه قادر باستمرار على كبح هذه الصدامات، خاصة أنّ كثيرا من النخب السياسية الشيعية بقيت تعرقل أي جهود له في سياق الحفاظ على مصالحها، التي اكتسبتها منذ سقوط بغداد. مع ذلك فقد بقي من أبرز منتقدي النموذج الطائفي، ولذلك كتب عن الحاجة لدولة مركزية تحفظ وحدة العراق.
ومع تحول العنف إلى حرب أهلية شاملة، بدا أنّ السيستاني لا يستطيع السيطرة على الفصائل المختلفة، ولذلك وجد أنّ دوره يكمن في التخفيف من السردية الطائفية عبر طرح سردية بديلة، من خلال التأكيد على وجود سنوات تعاون طويلة بين السنة والشيعة، كما سلط الضوء على التعاون بين العراقيين في ثورة 1920 العراقية، ومواجهة الاحتلال البريطاني، والدفاع عن بلدهم كلما تعرض لهجوم، كما بين في سياق تفسيره للأزمة الطائفية بأنها وليدة التركيبة السياسية الطائفية.
الجميل في الكتاب، كما ذكرنا، أنه يرصد خطابات كل الجماعات الشيعية في العراق منذ عام 2003 بأسلوب دقيق، ويكشف عن مواقف متعددة ومختلفة مما حدث ويحدث اليوم في العراق، وعن صورة أخرى للبيت الشيعي العراقي من الداخل، تبدو بعيدة أحيانا عن عيون القارئ والمتابع العربي، وربما تكمن أهمية هذا النوع من الكتب في أنّه يأتي ليزعزع بعض السرديات المهيمنة لصالح سرديات وقراءات أخرى أكثر هدوءا.

كاتب سوري

المصدر: القدس العربي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر الأخبار