البابور الموقع العربي

العدوان الإسرائيلي على غزة: الثقافة… الحرب… تصفية الدال والمدلول

202

د. رامي أبو شهاب

الادعاءات الأخلاقية ستبقى ادعاءات ما لم تُثبت بالممارسة، كما أن القيم على الرغم من إشكاليتها الفلسفية، من حيث اعتماد معايير مطلقة تبقى خاضعة للسياق الذي تنشأ فيه، وفي زمن الحروب تتكشف العناوين الحقيقة للمقولات الزائفة والمخاتلة التي تكفل بها الخطاب الصهيوني لسنوات أو عقود، فالأكذوبة الأخلاقية التي وسمت هذا الكيان باتت معلنة لا تحتاج إلى إثبات، وعلى الرغم من فظاعة الحرب، وقسوتها غير أنّ الحكمة منها تتمثل بإنهاء الأكذوبة الأخلاقية، كما مقولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، ولا يغرنك هذا الدعم الذي تناله نازية القرن الواحد والعشرين من بعض الأنظمة الغربية والعربية، التي تدّعي هي الأخرى المقولة الحضارية، والحرص على الثقافة، في حين لا شيء يجمعها سوى المال والمصلحة، وما الادعاءات الأخلاقية سوى تهريج مفضوح.
إن الزيف الأخلاقي لا يقتصر على الدموية المطلقة التي مارسها الكيان الصهيوني إنما يتعلق بالعقلية التي تنهض على تدمير المدارس والجامعات، كما المعالم التاريخية والأثرية، ولعل هذا يعني محاولة الإجهاز على القيمة الثقافية للمكان، بعد أن أجهز على البشر والشجر والحجر، إذ لا تقل القيمة الثقافية الوظيفية للمكان عن قيمة الإنسان كونهما يرتبطان معا، فالوجود لا يتحدد إلا بالعلامة، أو الدال من المنظور السيميائي الثقافي، وحين تقتل العلامة أو الدال ينتهي المدلول كون هذا يعني محاولة تقويض الثقافة التي تنهض على الأفكار. وهذا لا يقل خطراً عن قتل الأجنة في بطون الحوامل، والأطفال الخدج في الحاضنات، ما يعني تصفية الفكرة والوجود.
يكتسب النفاق الغربي قيمة مضاعفة حين تتغاضى حكومات الغرب عن ممارسات الكيان الصهيوني تجاه تدمير البنى الثقافية، وهو الفعل عينه الذي مارسته بعض الكيانات المتهمة بالأصولية الإسلامية المتشددة، قبل عقود حين أجهزت على معالم تاريخية وثقافية في مناطق عدة، وبهذا فإن العقل الغربي يقتبس من المتخيل الاستشراقي المهووس بالشرق، والنيل من الإسلام خاصة، وثقافة الآخر عامة، ذلك أن الصمت الغربي، ولا سيما الأمريكي الرسمي أصيب بالعمى الأخلاقي لصالح المتعالية الاستعمارية التي ترى في دولة الكيان وضعاً استراتيجياً يتجاوز أي منظومة قيمية أو أخلاقية، وهنا يكمن العجب أو المفارقة حين تتجزأ الممارسة والخطاب، فيُستنكر هناك، ويتجاهل هنا، في حين أن كلا الفعلين يتشابهان، بل إن الكيان الصهيوني أكثر بربرية من أي جماعة دينية متطرفة شهدها التاريخ الحديث.
تحتمل مدينة غزة إرثاً تاريخياً يتجاوز عمر دولة الكيان الصهيوني، ومن خلفها الولايات المتحدة بآلاف السنين، ومع ذلك فقد تعرضت مدينة غزة إلى تدمير نيروني – نسبة إلى نيرون- إذ لم يترك هذا الكيان شيئاً لم يقصف، بما في ذلك المؤسسات الأكاديمية، على الرغم من أن ثمة اتفاقات تنص على حرمة تدمير هذه المؤسسات، بما في ذلك المتاحف والمعالم الأثرية التاريخية. يكشف هذا الواقع عن ممارسة بربرية مدعومة من حكومات غربية لبيان أن القيم الثقافية والأخلاقية تتهاوى أمام المصالح، والمال، والسلطة، لقد خرقت الممارسة الصهيونية اتفاقية لاهاي لحماية الملكية الثقافية في حالة النزاع المسلح، التي تم توقيعها في عام 1954 من قبل 126 دولة، ومنها دولة الكيان، ومع ذلك فقد سعى هذا الكيان بكل قوة إلى نفي المعنى الثقافي عن الوجود الفلسطيني في غزة.

وإذا كانت هذه الأفلام معنية بتسليط الضوء على الأهمية الحاسمة للفن والتراث الثقافي، خلال أوقات النزاع والتدمير فإنها تسعى أيضاً إلى تذكيرنا بقيمة الروح البشرية، وإرثها الحضاري والتاريخي، لكن إذا ما تأملنا بوضوح فإن تلك الأفلام لا تتناول عملية تدمير الفنون، إنما محاولة منع سرقتها.

تكمن المفارقة أو الأكذوبة الغربية حين نرى السينما الأمريكية أو الغربية بصورة عامة، قد عالجت ثنائية الحرب والثقافة في عدة أعمال فنية، يحضرني منها فيلم من إخراج جورج كلوني بعنوان The Monuments Men (2014) ويتحدث عن كتيبة أمريكية تتحدد مهمتها في الحرب العالمية الثانية بالبحث عن معروضات ولوحات فنية، وحفظها من النهب النازي تمهيداً لإعادتها إلى أصحابها الشرعيين. يحاول الفيلم أن يظهر قيمة إنسانية حين نرى الجنود، وهم يضحون بحياتهم من أجل لوحة لبيكاسو أو مونيه أو رامبرانت، أو للمحافظة على تمثال ديني، وغير ذلك، وفي هذا السياق نستحضر أفلام منها: The Train 1964 – من إخراج جون فرانكنهايمر- الذي تدور أحداثه في فرنسا عام 1944 ويتناول جهود المقاومة الفرنسية لإيقاف قطار محمل بكنوز فنية فرنسية من الوصول إلى ألمانيا، ويتجه الفيلم إلى تقدير القيمة الفنية التي لا تقل عن حياة الإنسان، وهناك أيضاً فيلم Woman in Gold 2015 – من إخراج سيمون كيرتس – ويصور حياة لاجئة يهودية تقاتل بمساعدة محاميها الشاب حكومة النمسا لاستعادة أعمال فنية تعتقد أنها تنتمي إلى عائلتها، كما يمكن أن نشير إلى فيلم «اغتصاب أوروبا» وفيلم (فرانكوفونيا) 2015. ولعل معظم هذا الأعمال تؤسس لقيمة الثقافة في زمن الحرب، ولاسيما الحرب العالمية الثانية، مع إلحاح على تصوير محاولة النازيين نهب الأعمال الفنية لا تدميرها، وهنا يكمن الفرق بين النازية والصهيونية، فالثانية تبدو أشد وحشية، بل يمكن وصفها بأنها تفتقر للبعد الحضاري القيمي بالمطلق.
وإذا كانت هذه الأفلام معنية بتسليط الضوء على الأهمية الحاسمة للفن والتراث الثقافي، خلال أوقات النزاع والتدمير فإنها تسعى أيضاً إلى تذكيرنا بقيمة الروح البشرية، وإرثها الحضاري والتاريخي، لكن إذا ما تأملنا بوضوح فإن تلك الأفلام لا تتناول عملية تدمير الفنون، إنما محاولة منع سرقتها، وإذا كان فيلم «عازف البيانو» 2002 للمخرج رومان بولانيسكي يثمن الذات اليهودية الحساسة عبر شخصية عازف بيانو رقيق، وهش، ومثقف.. فإن الكيان الصهيوني قتل مئات من الشعراء والفنانين والأكاديميين الفلسطينيين خلال بضعة شهور، من أجل الإجهاز على التكوين الثقافي لفلسطيني غزة، في حين وردت تقارير مصدرها وكالة الأنباء الفلسطينية تشير إلى تدمير المراكز الثقافية، عُرف منها خمس دور نشر، بالإضافة إلى مكتبات لبيع الكتب في القطاع، وستة مراكز ثقافية، علاوة على تصدّع العديد من المؤسسات الثقافية والفنية، كما تعرضت معظم أجزاء البلدة القديمة لمدينة غزة للتدمير، ومنها 146 بيتا قديما، إضافة إلى مساجد وكنائس وأسواق ومدارس قديمة وتاريخية، ومنها ميناء غزة القديم، والمدرج على اللائحة التمهيدية للتراث العالمي ولائحة التراث الإسلامي، ناهيك عن المدارس والجامعات، وفي تقرير صدر عن مجموعة التراث من أجل السلام، فقد قُدّر أن أكثر من 100 معلمٍ أثري وثقافي تم تدميره أو تضرّر.
وفي الختام، تتجسد الممارسة القيمية عبر اعتماد معايير واضحة لدى الجميع، فالغرب لم يتمكن إلى الآن من إدراك أو تفعيل العقل الموضوعي الذي أسهب فلاسفته ومفكروه في تأصيل مقولاته، بل ما زال يرزح تحت وطأة نزعة عنصرية عرقية مقيتة، ولاسيما من قبل الساسة الذين نلاحظ عبر شاشة التلفزيون ارتباكهم، ونفاقهم تجاه كل ما يتعلق بفلسطين، فتظهر محاولة لي عنق الحقيقة، فإذا ما تأملنا لغة الخطاب الغربي الناقدة للحرب الروسية على أوكرانيا فإننا سنكتشف ازدواجية بغيضة أدركتها حتى الشعوب الغربية، التي اتضحت لها ملامح ما يعتور أنظمتها من نزعات تضليل، إذ لم تعد الأمور كما كانت سابقاً، فالقيم الإعلامية البديلة كشفت الغطاء عن الجميع، بما في ذلك نفاق بعض المثقفين ورجال الدين، الذين تقع على عاتقهم – على الأقل عربياً- مهمات أخلاقية وتاريخية، لكن يبدو أن أغلبهم قد سقط في اختبارها.

كاتب أردني فلسطيني

القدس العربي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر الأخبار